Friday, March 20, 2020

حتفٌ قانوني ... بقلم الكاتبة المبدعة الأستاذة / سائدة محمد

قصة قصيرة
بقلمي..

حتفٌ قانونيٌ

عاد سامي إلى قريته بعد أن أنهى سنواتٍ طِوالًا من دراسة علم الجيولوجيا والتي حصل فيها على درجة الدكتوراة.

وكما هي العادات توافد أهل القرية إلى بيته لتهنئته بالعودة بالسلامة والسؤال عن أحواله، كان سامي يبدي اهتماماً كبيراً بكل من يأتي ويسأل عنه ،كان شخصاً  اجتماعياً ويحب مخالطة النّاس على حد سواء.

 لم تمضِ فترة من الزمن إلّا وقد تعرف على الكثير، وكان يخرج كل يوم ليلتقي بأهل القرية في المقهى حيث يذهب للصلاة في الجامع ويرافقهم إلى المقهى  يتبادلون الأحاديث ويروي لهم قصصا وأحداثا ،كان قليل التحدث عن نفسه وكثير الاهتمام بمشاكلهم.
لكن هناك شيخ طاعن في السن كان يجلس دائما في المقهى  ذو شعر ولحية كثيفين ويتمتم بكلمات غريبة ليست مفهومة  يجلس حانيا ظهره نصف انحناءة ومتكئا بيديه على عصا يدق بها الأرض كل حين،كان كلما ضرب بعصاه يثير تساؤل سامي ليخبره أهل القرية بأنه كان شيخ القرية قبل أن يفقد ابنه وعقله وهو الآن لا بيت له ويعيش في البرية،وأن أهل القرية حاولوا مساعدته لكنه رفض مساعدتهم.

كتاجر مخدرات يسحق جماجم الموتى ويمزجها مع الهيروين ليسلب حياة الآخرين، أخذ سامي يبسط لهم مدائن الألفة ويرعى جنائن الولائم والحفلات ليتوّدد إليهم أكثر فأكثر حتى أصبح الجميع يحبه ويثق به.

بعد عدة أيام ،على غير عادته لم يأتِ سامي على الجامع،فافتقده أهالي القرية، وفي اليوم التالي جاء بوجه كظيم عابس، مخفيا وراء ذبول عينيه أمرا جللا،كمن يحمل أثقالا على أكتافه مطأطئا رأسه شابكا يديه للخلف،
ما بك يا سامي ؟
الجميع كان يعيد عليه السؤال، رفع رأسه محدقا في وجوه الحاضرين، معتقلا الدموع على أبواب مقلتيه،
نحن على شفا حفرة من النار،
وجم الجميع، الصمت شاخص على وجوههم، صواعق الخبر أصمّت آذانهم  بدأوا يلتفتون وينظرون إلى بعضهم البعض وإلى سامي،
ما الأمر يا سامي أخبرنا ؟ سكت سامي والحضور والمكان، وحدها قعقعة عصا الشيخ تتجه نحو مسامع سامي، زجر سامي الشيخ وأردف بصوت شاحب: لا يفصلنا عن الموت شيئ. من خلال دراستي تبين أننا نعيش على هضبة بركانية و.....، قاطعه أحدهم وماذا سيحدث؟
أمهلوني شهرا وسأعلمكم.
كانت كلمات سامي كمن ينتظر مصيره داخل دائرة من الألغام ستنفجر حتما، سكن الذعر قلوب الأهالي.

الانتظار وحش كاسر ينهش الروح ويمزّق الفكر ،يفرض ساديّته على الفريسة لتستسلم دون مقاومة.
كان سامي كمن دسّ السُّم لأهالي القرّية، كانوا يتلوون من قسوة الخوف والهلع من مستقبل قاتل لا يعرفونه.

 وها قد وصل آخر يوم من أيام الشهر الزاحفة، ليجتمعوا بسامي ويؤكد للأهالي من خلال أوراق وخرائط طوبغرافية
أنّ قريتهم ما هي إلّا هضبة بركانية وأنّها ستشهد ثورانًا شديد القوة في القريب العاجل، وسيموت كل من في القرّية.
زلزل كلامه كيانهم،ارتجفت قلوبهم،ثقلت ألسنتهم، لم ينبسوا ببنت شفة، بضع كلمات تحرّرت ممن تجلّدت مسامعه على الخبر:
أنت عالم بهذه الأمور لابدّ من طريقة للنجاة!
يحاول سامي امتصاص أكبر قدر ممكن من الذعر الذي اعتراهم.
تعتلي وجهه تعابير التأييد، وكصائد ألقى طعما للسمك والتقطته، لقد وجدت الحل الوحيد،
الجميع يطرطق آذانه يومئون برؤوسهم له بأن يكمل،
الحل الوحيد أن نترك هذه القرية ونبحث عن قرية جديدة توفر لنا الأمن والسّلام!
ضجّت بعض علامات استغراب واستفهام بين الحاضرين،
كيف نترك قريتنا وبيوتنا وأرضنا؟ وأين القرية التي ستستقبلنا؟
سامي بثقة كبيرة سأتدبر لكم كل شيء، أعلم أن الأمر في البداية سيكون صعبًا عليكم ، ولكنه أفضل من الموت،
كان سامي قد رمى لأهالي القرية طوق النجاة الوحيد  الذي سينقذهم من الموت، وينتشلهم من الانفجار المزعوم.

بنى لهم قلاعا من الأحلام، احتجزوا تفكيرهم بمحيطها،
سقى أمانيهم بوعود غيبية نمت في أصص هشة سرعان ما تهشّمت ليندثروا تحت ترابها.
اجتمع أهالي القرية في نفس المكان مع سامي لكنه هذه المرّة كان برفقة صكوك بيع وشراء منهم لسامي وأوراق ثبوتية تؤكد ملكية القرية برمتها لسامي، مقابل قطعة أرض يحصل عليها كل واحد منهم في القرية الجديدة!
كانت قعقات عصا الشيخ تزداد كلما زاد عدد الأوراق الملكية المتراكمة أمام سامي.
تجمّع الأهالي وصعدوا جميعهم إلى الحافلات باستثناء الشيخ الذي رفض التوقيع وظل غصة في طريق سامي.لتحميلهم وترحيلهم إلى جنتهم الجديدة، حاملين معهم بضعا من أمتعتهم وأحلامهم وسر سعادتهم( ورقة إثبات ملكية بأسمائهم موقعة من سامي).والتي أصبحت شاهدة على قطعة أرض بمساحة لا تزيد عن مترين فوق قبر كل منهم.
سائدة محمد فلسطين

No comments:

Post a Comment