وجهة نظر نقدية : بقلم صالح هشام٠
الشطب والجملة في القصة القصيرة٠
كم أتضايق، وأحبس أنفاسي عندما تريد زوجتي شراء لباس، وأنا برفقتها، لأن ما تقوم به يقلقني، كأن تطلب من صاحب المتجر أن يكدس أمامها عشرات الألبسة وبأشكال وألوان مختلفة، فأرق لحال صاحب الدكان لكنه يقول وبابتسامة عريضة:
- لا عليك يا سيدي أتركها وشأنها، تختار ما يحلو لها٠
وعندما تنتهي من تكديس تلك الملابس تقول:
- الآن سأختار ما يناسبني، فعندما تكون هذه الملابس معلقة أفقد القدرة على التركيز٠
فكرت جيدا في طريقة زوجتي في اقتناء الملابس: فرأيتها تعطيني درسا مفيدا في تقنيات الكتابة لوجه الشبه بين اختيار الجملة أو الفكرة واختيار اللباس من أكوام من الألبسة٠ سأركز هنا على بعض خصىائص الجملة والشطب والتنقيح في القصة القصيرة٠
وأنت تكتب قصة قصيرة، تأتيك الفكرة رائعة صدفة ودون سابق إنذار، كصفعة على قفاك، أو سحابة شاردة تعبر ذهنك بسرعة جنونية، ثم يليها هجوم سيل من الأفكار، فتتدفق من مخزونك الثقافي بلا هوادة ، وقد تكون أمامك دقائق معدودات لتحاصرها وتدونها على الورق، وكأنك تريد حصار الماء بين الأصابع، أو القبض على الزئبق الأحمر، وعندما تتماطل أو تتأخر في القبض عليها، كأن تتركها إلى حين آخر، يهمس في أذنيك حكيم فيقول لك ساخرا :
- لا نستحم في النهر مرتين٠
فتفهم من قوله أن حضور الفكرة لا يتكرر مرتين، وقتذاك تتبخر الأفكار، وينزلق الجنين من رحم الذاكرة، فتطارد عبثا السراب أو خيط الدخان، فالذاكرة لا تنتظرك، لأنها ستنغلق على نفسها، فتضيع منك أرضية كنت ستهندس فوقها بناء قصة رائعة٠
أما إذا كاتت لك حنكة الصياد، وتتميز بالخفة وسرعة البديهة، فإنك ستحكم إغلاق القنينة على المارد، وهذا يعني أنك ستتمكن من لملمة أفكارك وجمعها كيفما اتفق، فتعلق بجدار ذاكرتك كالجنين يعلق بجدار الرحم، فتتحكم فيها مدونة على الورق، فلا تضيع منك، اعتبرها كسوفا أو خسوفا قد يأتي أو لا يأتي، لا طلوع شمس أوبزوغ قمر٠ وقتئذ، تجلس جلسة الصياد، فتبدأ في ترميم جنبات جنينك، وتساعده بمهاراتك على التكوين، فتنتقي كل ما جمعته من أفكار، وتعابير، وتراكيب لعوية مختلفة،. وكلها مواد أولية ستحتاجها وقت البناء، وأنت تهندس هيكلا يليق بمولودك الذي لم يولد بعد، فترمي في البحر تلك الأفكار والجمل التي تراها تثقل شبكتك، وتعوق سرعة مركبك، وأنت تبحر في عالم الكتابة، فتطرح هذه وتزيد تلك كالصيرفي الذي ينضد الجواهر والدرر في عقده، وكأنك تطرز لوحة من الفسيفساء، يستعصي تطريزها٠ فتضيف ما تجب إضافته، وتزيل ما يمكن إزالته، وأنت تقاوم ترهل الجملة وتتلافى ذلك الحشو الذي لا يفيدك في شيء، فقد يقول قائل: لماذا كل هذا التعب؟
من خلال اطلاعي على إبداعات بعض خيرة كتاب القصة القصيرة والرواية استنتجت أن المبدع الحقيقي( ليس هو من يعرف أن يكتب، بل الكاتب البارع هو الذي يتقن عملية الشطب والتنقيح) فالشطب يخضع لقراءات نقدية عدة من طرف المبدع نفسه، وفي كل قراءة يظهر الجيد والجديد٠ يمكن إدراج هذه العملية ضمن مرحلة تكوين النص منذ سقوطه فكرة في رحم الذاكرة، (وهذا من أهم ماكان ينصحني به الاستاذ محسن الطوخي، وأنا أكتب في هذا المجال المعقد)، لكن شريطة أن لايكون الشطب مجانيا، وإنما يستفاد منه تحسين لغة القصة باعتبارها ترقى إلى مستوى لغة الشعر٠ فحياة الشتلات تتوقف على مدى ما يقوم به البستاني من جودة التهذيب والتشذيب، فالظبية تقوم بتنظيف وليدها من عوالق المشيمة، قبل أن تتركه يتدبر أمره في عالم ملئ بالمخاطر٠
فالشطب والتهذيب والتشذيب ( التنقيح) من ضرورات الإبداع الناجح، لأن الجمل والأفكار في النص لا تستقيم، ولا ترص لها صفوف، إلا إذا أعطيتها كل اهتمامك، لا يمكنك أن تظفر بجمال الحسناء إذا كنت لا تحسن الإطراء والمديح، والمراودة٠
من الرواد من كان يكتب الفصل من الرواية ثم يشطبه، وهناك من كان يشطب الرواية بأكملها ويعيد كتابتها من جديد، لأنها لم ترقه، أولم يستعذب محتوياتها، أولم يقتنع بقيمتها الأدبية٠فذاكرتك لا تعطيك دائما الأجود وكأنك تروض حصانا جامحا، لكن – رغم ذلك- عليك أن تؤمن بأنها جيدة، وليس مثلها أي ذاكرة أخرى٠ عليك أن تسايرها في هبلها مرة، وفي ذكائها مرة أخرى، وهذه المسايرة متوقفة على ماذكر من علميات(شطب/تنقيح/تهذيب/ تشذيب)٠ فهي تلاعبك لعبة الغميضة، عندما تغفو، كالبرق تومض لك بفكرة، و تومض بأخرى أكثرعمقا، ثم تتداعى الأفكار كالحائط القديم، فتضطر إلى شطب أفكار، وتحتفظ بأخرى، لأنك تبحث عن الفكرة الأسمى، والمعنى الأشرف والأرقى، والعبارة الأبهى، والجودة لا تنزل وحيا من السماء، وإنما تكون نتيجة جهد وعناء٠
وقد تأتيك فكرة رائعة، لكنك لا تحسن التعبيرعنها، فتمارس عملية الشطب والحذف والإضافة من جديد، وأقصد بسوء التعبير عدم التوفق في اختيار تركيب محكم يجعلها أكثر انزياحا وتكثيفا وتلميحا، لأن جملة القصة القصيرة – من حيث طبيعة التحجيم - تكون ذات طابع شعري على مستوى التكثيف والإيحاء والترميز، وهذا لن يتحقق بعيدا عن جودة تركيب المقولات اللغوية التي تم اختيارها في جمل تثير الإعجاب والإدهاش في نفس المتلقي، وتخلق لذة القراءة ، وأقول: إن الكتابة في أي جنس أدبي كيفما كان نوعه، لا ترقى -أبدا- إلى مستوى الإبداع الحقيقي، في حالة عدم خضوعها لهذه العمليات التي أعتبرها قراءات نقدية ذاتية، وقد لا تنتهي إلا بنهاية الكاتب٠
فالنص لا يبلغ درجة الاكتمال أبدا، ويظل في أمس الحاجة إلى الشطب والتهذيب والتنقيح، كلما تعددت قراءاته، ولوكان منشورا منذ عشرات السنين٠ فذاكرة الإنسان دوما تجدد مخزونها، أيضا تبعا لظروف الكتابة والقراءة والتفكير٠ فقد تكون لظروف الكاتب النفسية أهمية كبرى في إعادة قراءة نصه وإعادة كتابته، وما دامت كتابة النص لا تنتهي، فكذلك قراءاته بدورها لا تنتهي أبدا٠ أما عندما تنشر النص أو تكتبه على الورق، وفي قرارة نفسك، أنك ستقوم باللمسات الأخيرة أو ما يسمى (الرتوش ) لاتصدق ذلك لأن اللمسة الأخيرة في النص الإبداعي تكاد تكون مستحيلة، وإنما تمارس عملية التخلص من بضاعتك، وتتركها للقاريء والناقد يتكفلان بها، فلو أعدنا النظر في النصوص التي نشرناها منذ سنوات، لأعدنا كتابتها عشرات المرات من جديد٠ فإذا كان هذا، فما الفائدة من الشطب والحذف إذن؟
فالشطب يجعلك تحكم السيطرة على مقومات الجملة، فتجعلها أكثر شعرية ، لأنك ستخلصها من الزوائد: من حشو وإطناب وكل ما يمكن أن يعوق إيقاعها، فهي في القصة لا تقل أهمية عن الجملة الشعرية: لها إيقاعها، ولها دفقتها الشعورية، ولها حيزها من البياض والسواد على مستوى التشكيل البصري للنص٠ فهي ليست كلاما عابرا ينقل أفكارا وينتهي٠ فربما تجعلها هذه الخصائص مخالفة للغة النثر وإن كانت نثرية٠ فروعة الجملة في القصة القصيرة تتجلى في الاقتصاد في توظيف المقولات اللغوية، لجعلها مضغوطة أكثر، وحاملة أكثر لحمولات دلالية تختلف باختلاف القراءات النقدية، فإضافة لقصر الجمل من حيث التركيب، قد يستغني الكاتب عن الروابط اللفظية بينها، ويكتفي بالروابط المعنية، لأن كل جملة -حتما- ستعضد ما قبلها أو ما بعدها، وأعتقد أن الاقتصاد في الروابط اللفظية يجعل الجمل أكثر جودة من حيث الإيقاع، وهذا يتوقف على حسن استعمال المقص.
فلتظهر شجرتك بمظهر أنيق ولائق شذب فروعها، وخلصها من أوراقها الميتة، كأن تزيل من الجملة تلك الشوائب غير المرغوب فيها، وتجتنب تلك الأوصاف المجانية التي تثقل كاهل جملتك، فتسبب لها ترهلا يشتت انتباه القاريء، أو يسبب له الملل٠
فجملة القصة القصيرة تكون أشبه بوخزة الإبرة في دماغ القاريء، وخزة خفيفة خفة ومضة البرق، لا أن تكون ثقيلة عليه، فتؤديه وتؤلمه وتتعب ذوقه، فكلما كانت الجملة جذابة كلما طمح في غيرها، فتنزل عليه تلك الجمل كقطرات باردة تستقر في حلق محموم، وبالتالي يكون السياق العام للنص حريريا، ناعم الملمس، يفرح فيه القاريء ويمرح دون أن يشعر بملل أو كلل٠ أما اذا كانت غير مشذبة وغير مهذبة فإنها -لامحالة - ستفقد بريقها، فيعزف القارئ عن متابعة القراءة بدء من الجملة الأولى، فيتأفف ويتضجر، لأنه يبحث عن المتعة الفنية، وهذا من حقه٠
فلكتابة القصة القصيرة تقنيات فنية، يجب أن يشتغل عليها الكاتب فالشطب واجب والتنقيح مسألة حتمية، فقد أشرت إلى توظيف الروابط اللفظية التي تساهم بشكل أو بآخر في إضعاف جماليات التراكيب، إذ يتوقف توظيف الروابط بصفة عامة على حنكتك اللغوية، التي تجعلك تتحكم في روابطك على المستوى المعنوي، ففي كثير من الأحيان تتحول علامات الترقيم روابط للجمل في السياق العام، فينير بعضها بعضا، فتزهو في جدلية البياض والسواد، عند ذاك تقول: حاولت كتابة قصة، أما القصة الحقيقية فإنها لم تكتب بعد، ولن تصل إلى درجة الكمال أبدا، وربما تكون نهايتها بنهاية كاتبها٠ في بعض الأحيان أقرأ بعض القصص خصوصا القصيرة جدا فأجد كتابها أصبحوا كالفطريات أو أشباح منتصف الليل، رغم أن الأغلبية الساحقة مازالت لم تمارس كتابة هذا الجنس ممارسة فعلية بعد، فهي جنس سردي - على مستوى التحجيم- قد تكون من ثلاثة أسطر أو أربعة، لكن هذه الأسطر الأربعة في ثلاث جمل أو أكثر بلغة مباشرة تخلو من فنيات السرد القصير، لأن الجملة التي تتجاوز السطر تصبح عبئا ثقيلا على جماليات الكتابة ، فالقصة -بنوعيها- أشبه بالقصيدة الشعرية التي لا يتجاوز سطرها الشعري رؤوس الأصابع من الكلمات الحبلى بالدلالات والمعاني، المتخمة بالشفرات والرموز، الحبلى بالدلالات والمعاني، المتخمة بالشفرات والرموز، فكذلك جملة القصة يجب أن تكون أقرب إلى هذه اللغة الراقية، فتخضع لشطحات القاص/ الشاعر، فما دام الشاعر يتحكم في مساحات البياض والسواد في قصيدته، فلماذا لا ينهج القاص النهج نفسه، ويتحكم في جمل قصته، فأجمل شيء في القصة هو ذلك الإيقاع الجميل الذي تنتشي به، وأنت تقف على جملك جملة جملة أثناء القراءة٠ فكتابة القصة متعة شخصية، قبل أن تكون متعة للقارئ، يقول "روبرت هنري" : (لكي يكون الفنان ممتعا للآخرين لابد أن يكون ممتعا لنفسه، وأن يكون قادرا على الشعور المكثف والتأمل العميق ) وكاتب القصة فنان بالضرورة، فلا داعي -إذن- لتوظيف جملة تتعبك أثناء القراءة والكتابة٠يقول" تولستوي " إن الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار رآه في الشارع ) لكن روعة قصة شجار بسيط في الشارع تكمن في قدرة الكاتب على نقله للقارئ نقلا يختلف عن نقل الناقل العادي٠
أعتقد أن كتابة القصة القصيرة بنوعيها لا يستقيم حالها، إلا إذا أدمنا على قراءة روائع عباقرة الفنون السردية القصيرة، لنستفيد من طرقهم في التعامل مع الجمل بصفة خاصة، وتقنيات السرد بصفة عامة، وإذا أحكمنا السيطرة على جملة القصة، نكون نجحنا نسبيا في طريقة الكتابة٠
No comments:
Post a Comment