Sunday, July 21, 2019

توظيف اللهجات في القصة القصيرة ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / هشام صالح

وجهة نظر نقدية :صالح هشام / المغرب
توظيف اللهجات في القصة القصيرة٠
     نلاحظ أن الكثير من كتاب القصة القصيرة والرواية، يميلون في كتاباتهم إلى توظيف اللهجات العامية أو المحلية، وفي قرارة أنفسهم أنهم يرومون تقريب معنى نصوصهم من القارئ، وربما لا يدركون أنهم يدمرون تلك العلاقة التي تربطه  به، وتسيء إلى ما يتوخاه  من هذا المبدع أو ذاك٠ لا أنقص -إطلاقا - من قيمة وقدرة اللهجة العامية كوسيلة تواصل فعالة، لكن هل بإمكانها أن تحقق جماليات النص الفنية، وتخلق في نفس المتلقي لذة القراءة التي يبحث عنها في جمال اللغة قبل أن يبحث عن المعاني والأفكار؟ فجودة اللغة من جودة المعاني، ورائع التركيب فيها لا محالة سيحقق شرف المعنى، فلا لغة بدون معنى٠
   يسقط  التوظيف العشوائي للهجات الكاتب في مطبات الابتذال والمباشرة التي تفقد النص بريقه، فتخبو لذة القراءة في نفس المتلقي٠وأركز على  هذا النوع من التوظيف، الذي لا يخضع لأسس وتقنيات الكتابة، ولا يحترم جمالياتها الفنية التي تهندس بناء النص الإبداعي كالإحالة والإشارة،  من خلال العامية، إلى معان يتوخاها الكاتب، أومحاولة إبراز مواقع وخصائص  شخصياته في جغرافية هذا النسيج، فيكون ذلك إما تناصا أو امتصاصا من نصوص أخرى لا تعد، تحبل بها اللهجات العامية التي تغترف من التراث والآداب الشعبية، والتي تخدم بناء النص، وتمده بكل أسباب الحياة٠ فالتوظيف اللغوي السليم يعتبر- بلا شك - عصب الحياة بالنسبة لأي فن أدبي مهما اختلفت ألوانه، وتنوعت مشارب وخلفيات مبدعيه الثقافية٠
     عندما يبدع الكاتب نصا يروم خلق الجديد والمؤثر في نفس المتلقي، باعتباره من أهم أركان وأسس العملية الإبداعية برمتها٠ فهو الركيزة والأساس في أي إنتاج أدبي شعرا كان أو نثرا٠ فماذا يريد المتلقي من قراءة إنتاج أدبي، سواء كان قصة أو رواية أو قصيدة شعرية ؟ لن أمنح نفسي حق النيابة عنه، لأني لست مخولا للقيام بهذه المهمة، وإنما أنطلق من موقفي الشخصي كقاريء له قدراته على التمييز بين ما هو جميل وما هو قبيح، بين ما هو حسن وما هو رديء٠ أظن- وإن كنت مقتنعا بذلك- أن سلوك الكاتب مسلك توظيف اللهجة التي تخلو من مقومات لغة السرد الفنية، قد يضر إنتاجه الإبداعي أكثر ما ينفعه٠
     عندما يفكر في تقريب المعاني، من خلال توظيف العامية، معتقدا أنه بتسهيل نقل أفكاره بهذه الطريقة سيحقق رغبة القاريء، وسيتمكن من القبض عليه، وشده للنص شدا، لكنه ينسى أنه سيترك قارئه يراوح مكانه في منطقة السلب، ولا ينقله إلى منطقة الإيجاب التي تستوجب خلخلة أعشاش الدبابير في دماغه، فيفعل وينفعل، يؤثر ويتأثر، يسأل ويتساءل، يشارك ولا يستهلك٠  يشارك الكاتب في إعادة هيكلة النص وبنائه: تفكيكا وتجميعا وفق تصوراته الفلسفية في الحياة، وحسب قدراته المعرفية وخلفيته الثقافية، وأخص بالذكر هنا مجال السرد القصير بنوعيه، الذي تنتقى كلماته بدقة متناهية، فتكون كالآجر في الحائط، يؤدي الخلل في الآجرة  الواحدة إلى انهيار البناء بأكمله، فلا مجال للزوائد، أو الحشو، أو الإطناب، أو المبالغة في الوصف المجاني، فقد يمكن إغفال ذلك في الرواية، لأنها تعتمد على الاستيفاء والشمول، لأن عامل التحجيم يسمح بذلك٠ أما السرد القصير فينبني أساسا على التكثيف، والتلميح دون التصريح، والإيحاء والإشارة، لأن المبدع الحقيقي  يستطيع أن يخلق عوالم كثيرة ومتناقضة، ويفجرها من الداخل  في هذا الحيز الضيق جدا، هو المصور الماهر، الحامل على كتفه كاميرا ثلاثية الأبعاد، تقرب المتلقي من كل زوايا هذه العوالم المتناقضة٠ فالتكثيف  يستوجب الانزياح للخروج من دائرة توظيف اللغة المباشرة٠ فاللهجات وسيلة تواصلية لا تنقصها القدرة على الانزياح والتكثيف، لكنها تبقى خاضعة لما هو محلي أوإقليمي في أحسن الأحوال، فتتحول اللهجة من محفز إلى عائق يمنع المتلقي من استقبال النص والإقبال على قراءته٠
    وقيمة هذا النسيج السردي يستمدها من جمال لغته، في حين لا يثير ذرة إعجاب إذا كانت لحمته من بنيات سطحية فقيرة لا تدعو إلى التفكير، ولا تحفز عموم القراء على إجهاد النفس لطلب روائع الدرر والجواهر المخفية في صدفات يتطلب الظفر بها الغوص في أعماق الأعماق، لا تلك السباحة على السطح، كما يستوجب شقها الدربة والمراس، والقدرة على التفكيك والتحليل والتأويل والتفسير وحسن اختيار الإسقاطات التي لا تضرمضامين النص٠
    أكرر أن مساوئ توظيف اللهجات تتجلى في عدم خضوعها للمقومات الفنية التي تقتضيها النصوص السردية، وحتى إذا توفر ذلك، فإننا لا نطمح لقارئ محلي أو إقليمي، ولأن هذا التوظيف، لا يشجع القارئ الذي لا يتكلمها ولا يفهمها على القراءة، وأظن أن هذا من  مساوئ الإبداع  التي تعوق انتشار النص، ولا ترقى به إلى مستوى العالمية، فالإبداع في المجال الأدبي كغيره من المجالات العلمية الأخرى إنسانية بالدرجة الأولى، وليست وليدة بيئة معينة في زمن معين٠
  إن نقل المعاني بطرق مباشرة إلى المتلقي تبقى من مسؤوليات الصحافة، أو أي نوع آخر من الكلام العادي المباشر٠ أما بالنسبة لطالب الإبداع فإنه يبحث عنه في  جمال التركيب، وروعة الإسناد، والبراعة في استثمار العناصر اللغوية لخلق الجملة الجميلة التي تستحوذ على ذوق القارئ، فينجذب إليها، من خلال كسر المألوف، وخرق منطق اللغة المعيارية، فقد يدهشك كسوف الشمس لا طلوعها، وخسوف القمر لا بزوغه٠ لا أريد أن أعيد ما سبق قوله في بعض المواقف النقدية العربية ( المعاني مطروحة في الطريقة )٠
     فالاختلاف بين المبدع والإنسان العادي يكمن في كيفية نقل الخبر للمتلقي، فالكاتب يستطيع أن يبدع من شجار بسيط في الشارع قصة قصيرة- كما يذهب إلى ذلك تولستوي-  قصة تنفتح على تعدد القراءات التي تضمن  لها  تجاوز الحدود الزمانية والمكانية، فتنحى منحى العالمية، لأنها ستحقق رغبات قراء لا يخضعون لعوامل الزمن والجغرافيا، والمتعة الفنية في لغة النص،  نلمسها بوضوح وفي تلك الصورالرائعة التي تنقل القارئ من السطحية إلى التحليق في عالم الخيال، لأنها أشبه بالصورالشعرية: تكثيفا وانزياحا وبلاغة غموض، وخرقا للمألوف، والتي تخلق في النفس رعشة الإعجاب والاندهاش ولذة القراءة، ولا غرابة في ذلك مادامت القصة القصيرة والقصيدة الشعرية بنات عمومة٠
    قد يستقيم عمود العامية في الزجل، أو الشعر الشعبي، فتحقق متعة أشبه بمتعة الشعر الفصيح، لكن لا أظنها تنجح في تحقيق هذا الهدف في القصة القصيرة التي تستوجب التكثيف حد الانفجار، وتعتمد على الاقتصاد في اللغة حد التقتير، إذ لا  يسمح فيها بالزوائد أو الإطناب المجاني الذي لا يفيدها في شئ٠ ويمكن أن نوظف  اللهجات في القصة  القصيرة بنوعيها، لكن شريطة عدم الإخلال  ببنياتها العميقة،  وعدم حصر القارئ في منطقة معينة، وأن لا تساهم في تدمير تلك المسافة التي  يتركها الكاتب بين النص وقارئه، وحرمانه من فرصة التأويل وتحليل الشفرات وتفكيكها، ومن الإسقاط وفق رؤيته الفلسفية في الحياة، وحسب تكوينه المعرفي٠ فلا مانع من توظيفها خدمة لمقومات النص الفنية ، على سبيل التناص أو  تناصص القصة مع نصوص أخرى، أو عبارات، أو جمل، أو فقرات بالعامية، لكن شريطة  أن تتجاوز هذه اللهجة ما هو محلي وترقى- على الأقل- إلى الإقليمية، ولم لا العالمية؟ وهذا رهين بعدم إخلالها بجماليات السياق، وعدم تأثيرها سلبا في البناء اللغوي العام  للنص،  مع ضرورة الإشارة إليها كلغة دخيلة على لحمة النص، من خلال هوامش وتوضيحات تساعد على الفهم٠
     فالسرد إبداع فني، له خصائصه، له لغة خاصة لا تخلو من انزياح وبلاغة غموض، تساهم بشكل أو بآخر في تحقق التكثيف المطلوب، ذات تأثير كبير في نفس القاريء، وليست مدعاة للسخرية من الكاتب ومكتوبه٠ يقول الجرجاني في كتابه ( أسرار البلاغة):" الكلام الفني قول راح السمع يسترقه، أو يختلسه اختلاسا، وهو يتنصت على النائي والعميق "٠ فهؤلاء الكتاب الذين  يوظفون اللهجة العامية في النص السردي يحولونه - عن غير قصد- نصا مبتذلا مباشرا، يخدش السمع، فيشمئز منه الذوق، خصوصا عندما توظف اللهجة المحلية٠
    عندما يبدع الكاتب نصا سرديا، لا يستحضر القارئ أثناء عملية الكتابة، لأن هذا القارئ هو الذي يطلب مقروءه من نصوص، لذلك لا نفكر  في اختياره أبدا، مادام افتراضيا خارجا عن حدود الزمان والمكان، فالنص كذلك يجب أن يخرج من دائرته الضيقة، فيخرج – بدوره- عن حدود الزمان والمكان٠ فعالمية النص لا يمكن أن تتحقق عندما يخاطب الكاتب قارئا بعينه، وبلهجته المحلية، وفي نيته  أنه قدم له فنا رائعا، لا أعتقد ذلك٠ فكبار المبدعين وظفوا اللهجة العامية، لكن بأية طريقة إبداعية؟ وفي أي مقام؟ وفي أي مقال؟  فنجيب محفوظ وإميل حبيبي- مثلا- وظفا العامية، لكن بطرق إبداعية لا مجال لذكرها في هذه المقالة٠ فهؤلاء الكبار لم يوظفوها توظيفا عشوائيا مبتذلا مباشرا، يقتصر على نقل الفكرة٠ لأن النص الإبداعي لا يهتم فقط بنقل الأفكار، وإنما يهتم بجماليات اللغة على مستوى التركيب والإسناد، فالحدث يعيشه القارئ في حياته بشكل يومي٠ والاهتمام باللغة هو الفيصل بين النقل الصحفي والنص الإبداعي، وربما يعتبر الاختلاف في طرق نقل الفكرة ديدن نجاح العمل الإبداعي أو فشله٠ فقد ينقل الواقع بأسلوب مباشر بالعامية، فيستقبله المتلقي دون أن يثير في نفسه أي إدهاش أو غرابة، أو شعور بنشوة متعة تلقي الخبر، في حين يفجره المبدع من الداخل، ولا ينقله على علاته، وبأسلوب فني قصصي يستفز في هذا المتلقي ملكة التخييل والتحليل والتفسير، فيشعر بالانتشاء، وهو يفكك الرموز، ويحلل الشفرات، رغم بساطة الحدث٠  يقول نيكوس كازانتزاكيس صاحب  (زوربا ) و(الإخوة الأعداء):" يكفي قلم وورقة بيضاء، ومتسع من الوقت، وعزلة، وضحك متبادل مع شخص حبيب لترى النور روائع أدبية جديدة "٠ فهؤلاء العمالقة في الفن السردي لم يوصوا بتوظيف اللهجات بتلك الطرق المبتذلة والمباشرة في النصوص السردية٠
   في بعض الأحيان، تجد اللغة العربية الفصيحة ( تسير جنب الحيطة ) كما يقول إخواننا المصريون أمام نظيرتها العامية في العمل الإبداعي فتفقد القصة القصيرة  باعتبارها فنا صعب المراس بريقها وجاذبيتها، لأننا نهمل الاشتغال على جملة السرد، التي تستمد روعتها من التكثيف، باعتباره الدعامة الأساسية في هذا الجنس الأدبي المعقد، الذي يفرض علينا أن نجتهد كثيرا لتوظيف لغة متينة مبنية على جماليات الإسناد والتركيب في الجملة السردية التي تسير على خطى نظيرتها الشعرية في مجمل خصائصها ومقوماتها٠ يقول الجرجاني : (الكلام الناجح ، شدة ائتلاف في شدة اختلاف)، ويقول كذلك: (وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كان إلى النفوس أعجب، وذلك في موضع الاستحسان ومكان الاستطراف، إنك ترى الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين)٠ فقد تسعف جماليات اللغة الكاتب، فتمكنه من إحكام قبضته على القاريء من  خلال  توظيف الرموز والإحالات والإشارات، فيحافظ على ذلك البعد الفاصل بين نصه وبين متلقيه، فهذا البعد يدفعه إلى الاجتهاد وطول العناء من أجل تفكيك الرموز وشق الصدفات، والشعور بشهوة اختراق الخفي والمستور في النص موضوع القراءة، فيساهم بشكل أو بآخر في إعادة إنتاج النص، أما أن تقدم له نصا تغلب فيه اللهجة المحلية على اللغة الفصحى، فلا يجب أن ينتظر منه تعدد القراءات  التي تضمن استمرارية النص،  وربما يضر هذا  التوظيف العشوائي للهجة  بقبول وتقبل  النص والإقبال عليه، فيضيع جهد الكاتب جهده سدى، فالرقي بمستوى اللغة ضرورة ملحة لإحكام السيطرة على القاريء خارج حدود الزمكان٠

No comments:

Post a Comment