Wednesday, July 31, 2019

مرايا مكسورة ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / صالح هشام

مرايا مكسورة: قصة قصيرة ٠
بقلم : صالح هشام / المغرب٠
    بفروته الناعمة يتبختر بخيلاء، يتسكع في ربوع الدار جيئة وذهابا، يتنقل من غرفة إلى غرفة، يملأ الفناء ضجيجا وشغبا، يقفز فوق صحون مرتبة في رفوف أعلى المطبخ، يكسربعضها، ثم ينزلق إلى الأسفل كقذيفة طائشة، ويتزحلق فوق الأرضية الرخامية٠
   تزمجر السيدة، ترغي وتزبد،  تصب جام غضبها على فصيلة القطط، ولا تنجو منها حتى الكلاب٠ تقذفه بفردة حذائها، لكنها تفلته، ويتبخر وراء الستائرالمسدولة٠ وفي غفلة منها، يتسلل إلى غرفة النوم عبر فتحة الباب،  يقفز فوق درج مقابل لسرير النوم، مبعثرة فوقه قنينات عطور بأحجام مختلفة، وتتوسطه مرآة كبيرة في إطار نحاسي منقوش، تعكس ضوء مصباح خافت، يقبع في أقصى ركن من الغرفة، يسرط زجاجها البراق كل الأشياء، ويحولها خيالات وظلالا غريبة٠ تقرب المرآة زوايا الغرفة، فتبدو ضيقة جدا بالكاد تسع نفرين، صغيرة حقيرة تشمئز منها العين، فتمتص منها كل علامات الترف والغنى٠ مزهريات تؤثث فضاءها، مبعثرة هناك وهناك، فربما تنعكس مقلوبة على المرآة، فترى مكسورة٠
   ينط كنمر مخطط فوق درج ماكياج السيدة، ويعبث بأدوات زينتها٠ فجأة، يلوح له شبح قط ضخم كبير، بشوارب معقوفة كالخنجر، ووبر منفوش، وذنب مقصوص، بفروة باهتة، صورة غريبة، لقط غريب، تعكسها المرآة الملعونة، يقترب منها بحذروتوجس، تزداد صورة هذا  الزائر الغريب أكثر وضوحا، وكلما اتضحت كلما أصبحت أكثر بشاعة٠
 يذأب القط٠٠٠ تذأب الصورة٠٠٠يعوي كالذئب٠٠٠ تعوي الصورة، يغضب ٠٠٠ تغضب الصورة٠٠٠ يعبس، فتنكمش أساريره، ويموء مواء غريبا، فيسمع كصراخ طفل صغير٠
    تتشوه الصورة وتتكسر، تأخذ أشكالا مخيفة، يشعر بخوف شديد، فيبتعد  قليلا، ثم يعود، يحملق في المرآة، وعيناه مفتوحتان عن الآخر، وتبالغ  بشاعة الصورة في استفزازه، يبرز مخالبه الحادة، فيخربش وجه المرآة بقوة، يخدشه زجاجها، فهي عنيدة لا تعكس إلا الوجوه القبيحة:
   قط قابع هناك في عمق المرآة، لكنه يقلده في كل حركة يقوم بها٠ يشعر أن هذه المرآة الملعونة تكسر فيه الحلم ببطء: قط غريب ينازعه السيادة على القطط وحتى الكلاب في بيت السيدة، كيف لا؟ وهو المدلل الذي تنتشي بزغبه أنامل لطيفة كل حين، ينام فوق صدور بارزة،  ناعمة الملمس، ويأكل لحم السمك الأبيض المقدد حتى الشبع٠
    يتكور على نفسه، يعض بنواجده على شفتيه، ويدور حول نفسه دورة خذروف مجنون، ويرتمي بكل ثقله على المرآة،  يمعن في خربشتها، تكبر صورة القط الغريب وتتضخم، وتزداد بشاعة وتشوها٠ يعزم على كسر شوكة هذا الغريم القادم، العالقة صورته مقلوبة بوجه المرآة٠
   ويحاول أن يقنع نفسه:
- في المرآة قط متوحش، لا ينتمي لفصيلة القطط، أنا قط جميل مدلل، أقضي معظم أوقاتي أعبث بجيوب ونحور حسناوات هذا المنزل: ألعق ما تيسر من لحمهن الأبيض، وأخربش صدورهن العارية دون أن يشعرن بي أضايقهن٠
   يعصر دواخله حنق شديد، فتجتاحه كراهية شديدة لتلك المرآة القابعة هناك فوق درج الماكياج٠ يتدمر٠٠٠ يعوي كما الذئب يعوي٠٠٠ والصورة تزداد بشاعة، يقفز هنا، هناك وفي كل زوايا الغرفة، يكسر قنينات العطور، ويتلف عطور السيدة، ويرتمي على المرآة، يكسرها، يريد الانتقام من ذلك القط المتوحش القابع هناك، تتشظى فوق الدرج، تعكس شظاياها عشرات الوجوه القبيحة، تتناسل ٠٠٠ تتكاثر، ويستمر تسلسل الوجوه المعكوسة٠ كل شظية تعكس وجها أكثر بشاعة، لكنها كلها لذلك القط المتوحش٠
    لكن، مولاته وسيدته بقدر جلالها، تجلس كل يوم ساعات طويلة أمام هذه المرآة الملعونة، فلا تشعر بأي غضب أو تدمر، فربما هذا المسكين  لأول مرة، ينظر في المرآة، فتعكس صورة قبيحة، كسرت حلمه بالسيادة في عالم القطط المدللة٠ أما سيدة البيت، فكانت تحجب ما تعكسه هذه المرآة من عشرات الوجوه القبيحة، لأنها تتزود بالعدة والعتاد: أسلحة مستوردة بأغلى ثمن، تنثرها هناك فوق الدرج، عقاقير وأصباغ تخفي تورم شفتيها الصفراوين، وتمحو تجاعيد وجهها، وبهذه الأسلحة تقاوم خربشات الزمن، وتخفي قبح هذا الوجه القبيح الذي تعكسه المرآة٠
    إنها مارد خبير في تجميد الماء، قادرة على توقيف الزمن، ولما لا الرجوع به إلى الوراء خطوات؟ ولو كان ذلك  بشكل مؤقت٠ أما هو، فإنه يقتحم عالم المرايا لأول مرة، وبدون هذه الأسلحة، التي تخفي بشاعة  انعكاس الصورة على المرآة، لذلك كانت ردة فعله عنيفة حد تدمير محتويات غرفة النوم، ولا غرابة في ذلك، فقد شعر بغرابة وقبح تلك الوجوه التي انعكست على وجه المرآة٠
     تستاء السيدة من تصرفاته، فتحمل عصا المكنسة، وتقرر كنسه مع الأزبال، ورميه في حاوية القمامة، وحرمانه من نعمة السمك المقدد، ودفء الصدور العارية٠
   يقفز من النافدة، وذاكرته المتعبة حبلى بعشرات الوجوه القبيحة، وشظايا المرآة المكسورة تعكسها في أبشع صورة، فيجد نفسه في حديقة البيت،  عالقا بين مئات  الجرذان الشامتة، وهي تحيط به من كل الجهات، وتستفزه ساخرة مما آل إليه حاله:
- يا قطيط، يا لقيط، ألم تدرك أن رؤية الوجه في المرآة تتعب كثرا، وتجرح القلب حد الإدماء؟  ألم تدرك أن الإنسان- بقدره وقدرته - يكره رؤية وجهه في المرآة؟ وربما لذلك أعد لها عدته وعتاده لتزييف حقيقة صورته٠ فها أنت خارج البيت، وستتسكع طويلا بين القطط والكلاب الضالة٠ فتأكل لقمتك من حاويات القمامة، لأن المرآة الملعونة كشفتك، فانكشفت حقيقة طبيعتك، رغم أنك حاولت حجب بشاعة وجهك بكسرها، فاستعد للأسوء يا قطيط الصدور العارية، فمن اليوم لن تلعب لعبة المرايا مرة أخرى٠

No comments:

Post a Comment