(قصّة قصيرة_قق_)
لَوْنٌ آخَرٌ لِلْقَدَرِ
ارْتَدى بَدْلَتَهُ الجَديدَةَ، نَظَرَ إلى مِرآتِهِ مُعْتَدّاً بِنَفْسِهِ وَمُبْتَهِجاً بِوَسامَتِهِ، لامَسَ بِأنامِلِهِ خُصْلَةَ شَعْرِهِ البَيْضاءَ الّتي عَلَتْ هامَتِهِ وَأخَذَ يُحَدّثُ رَسْمَهُ: أيّها الوَسيمُ مازِلْتَ في عِنْفُوانِكَ رَغْمَ تَسارُعِ الأيّامَ عَلى مِفْرَقِكَ.
سائِقٌ يَقودُ سَيّارَتَهُ الفارِهَةَ مُنْذُ أكْثَرَ مِنْ عِشْرينَ رَبيعاً هُوَ نَديمُهُ وَمَخْبَأ أسْرارَهُ وَعَليمٌ بِذاتَ نَفْسِهِ.
انْطَلَقَتِ السّيّارَةُ السّوْداءَ مُسْرِعَةً لِيَنْأى بِهِ السّائِقُ إلى بَوّابَةِ الحَظّ الجَديدَة، أخَذَ يَنْظُرَ مِنْ نافِذَةِ السّيّارَةِ عَلى الحاناتِ إلى أنْ اخْتَرَقَ بَصَرَهُ تِلْكَ الحانَةِ المَنْسِيّةِ مُنْذُ عَهْدِهِ القَديم، أشاحَ بِيَدِهِ لِلسّائِقِ لِلوُقوفِ عَلى ناصِيَةِ تِلْكَ الحانَةِ في مُحاوَلَةٍ لإعادَةِ الكَرّةَ مِنْ جَديدٍ.
دَخَلَ الحانَةَ وَهُوَ يَتَنَفّسُ عَبَقَ الماضي إلى أَنْ جاءَ النّاذِلُ بِسُرْعَةِ البَرْقِ وَأعَدّ لَهُ طاوِلَتَهُ..أحْضَرَ لَهُ مَشْروبَهُ الخاصّ، وَأخَذَ يَشْرَبَ مِنْهُ وَعَيْناهُ تَتَمَحّصانِ المَكانَ مِنْ كُلّ جَوانِبِهِ..رَأى مِنْهُنّ الكَثيراتِ، لَمْ يَكْتَرِثْ لَهُنّ، فَرَغْبَتَهُ لا تَسْتَسيغَ إلّا مَنْ كانَ يَظُنّها عَذْراءَ وَصَغيرَةً عَلى الحُبّ.
كَيْفَ سَيِقَعُ عَلَيْها؟..ذلِكَ السّؤالُ الّذي يِتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ في كُلّ مَرّةٍ يَبْحَثُ عَنْها..وَأثْناءَ عَمَلِيّةَ البَحْثِ أشارَ سائِقَهُ بِإصْبَعِهِ الشّيْطانِيّ نَحْوَ تِلكَ الفَتاةِ القادِمَةِ مِنْ غَياهِبِ الظّلامِ، ثُمّ خاطَبَهُ قائِلاً: ما رَأيُكَ بِتِلْكَ الوَرْدَةَ اليانِعَةَ يا سَيّدي؟
ابْتَسَمَ ابْتِسامَةً عَريضَةً قَبْلَ أَنْ يَقولَ لَهُ: أَيّها الشّقِيّ تَسْبُقَني في كُلّ مَرّةٍ لِتَرْضى رَغْبَتي عَنِ اخْتِياراتِكَ.
نادى عَلَيْها السّائِقُ قائِلاً: أيّتُها الجَميلَةُ ماذا تَفْعَلينَ هُنا؟
أجابَتْهُ: أبيعُ أوْراقَ الحَظّ لِيَنْعَمَ صاحِبُها بِالكَثيرِ وَأنْعَمُ أنا بِقَليلِ القَليلِ.
اقْتَرَبَ السّائِقٌ مِنْها لِيَهْمِسَ في أُذُنِها: سَيّدي كَفيلٌ بِشِراءِ كُلّ تِلكَ الأوْراقِ لِيَنْعَمَ هُوَ بِكِ وَتَظْفَري أنْتِ بِالكَثيرِ ..فَما قَوْلُكِ؟
أصابَتْها الدّهْشَةَ لِما سَمِعَتْ..سادَ السّكونُ بِصَمْتِها، إلى أنْ وَخَزَها أثيرُ واقِعِها..أيّتُها الشّقِيّةُ يَجِبْ أنْ تُسَدّدي ما عَلَيْكِ مِنْ مُسْتَحَقّاتٍ لِهذِهِ الحَياةَ فَأنْتِ ما زِلْتِ في كَنَفِها.
وافَقَتْهُ عَلى مَضَضٍ ..سارَتْ مَعَهُ إلى العالَمِ المَجْهولِ في مَكانٍ لا يَمْكِثْ فيهِ إلّا لَيْلَتَهُ لِئَلّا تَبْحَثَ عَنْهُ ثاِنيَةً إحْدى الهالِكاتِ مِنْ بَراثِنِهِ.
دَخَلَ بِها إلى مَلْعَبِهِ ثُمّ أشارَ لَها أنْ تَنْزَعَ ثَوْبَ كَرامَتِها، لَبّتِ النّداءَ دونَ رَغْبَةٍ وَلكِنْ بِاغْتِصابٍ مِنْ أوْجاعِها المُتَرامِيَةِ عَلى كاهِلَها.
نِظَرَ إلى عَلامَةٍ تَعْلو كَتِفَها الأيْمَنَ لِتَخْتَرقَ تِلْكَ العَلامَة أحْداقَ قَلْبَهُ، غابَ بَصَرُهُ عَنِ الوَعْيِ لِيَغوصَ في أعْماقِ الماضي، لَقَدْ رَأى تِلْكَ العَلامَةَ الفارِقَةَ قَبْلَ سَنَواتٍ سَحيقَةٍ عَلى كَتِفِ إحْداهُنّ وَبِنَفْس المَكانِ وَبِنَفْسَ ذلِكَ الإِتْقانَ مِنَ الرّسْمِ الإلهِيّ.
سَألها: أخْبِريني عَنْكِ؟
أجابَتْهُ وَدِموعُ الأسى تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيْها: أَنا وَحيدَةُ امْرِأةٍ شَقِيّةٍ، غابَتْ عَنِ الحَياةِ قَبْلَ سَنَواتٍ وَأوْرَثَتْني تِلْكَ الأوْراقَ لِأعْتاشَ مِنْها..لَمْ يَكُنْ لي أبٌ ظاهِرٌ رَغْمَ وُجودَهُ عَلى وَجْهِ البِسيطَةِ، كُلّ ما أعْرِفِهُ عِنْهُ مِنْ حَديثِ والِدَتي أنّهُ يُشْبِهُكَ كَما أراكَ الآن، وَأنّ ظُروفَ لِقائي بِكَ تَتَشابَهُ مَعَ ظُروفَ لِقاءَ أمّي بِهِ، وَأخْبَرَتَني أنّها حَمَلَتْ بي مِنْهُ رَغْمَ أنّها كانَتْ عَذْراءَ حينَما التَقَتْ بِهِ وَلَمْ يَطَأها أحَدٌ سِواهُ، وَها هُوَ المَشْهَدُ يُعيدَ الأحْداثَ مَرّةً أخْرى مَعَ ابْنَتِها.
صَمَتَ لأوّلِ وَهْلَةٍ قَبْلَ أنْ يَنْطِقَ بِتَلَعْثُمٍ وَيَسْألَها عَنِ اسمِ أمّها فَتُجيبَهُ عَلى الفَوْرِ لِيَسْطَعُ ذلِكَ الاسمُ الّذي كان مَحفوراً في ذاكِرَتِهِ أمام عينيْهِ.
انهارت قِواه..لقد عرفها وعرف من هو صاحب تلك الفَعْلةَ.نعم إنّه يشبهه كثيراً وهو شريكه في الّلهْو، لقد رأى والدَتها قبله ولكنّها لم ترُقْ له بسبب تلك العلامة مِمّا جعَله يهدي ليلته لنديمه السّائق.
فتح باب الغرفة وإذ بجثّة هامدة كانت قد سمعت الحوار..لم يسعف الوقت ذلك السّائق التّعس فقد وافته المنيّة لهول ما سمع..أمام هذا المشهد الرّهيب، خرج من لوحة الظّلام يجرّه ظلّه إلى بؤرته تاركاً خلفه ضميره الإنسانيّ المُتهالك.
بقلمي/أكثم جهاد
No comments:
Post a Comment