Monday, November 11, 2019

قرصان الكرايب ... بقلم الأديب المبدع الأستاذ / صالح هشام

قرصان الكرايب: قصة قصيرة
بقلم  : صالح هشام / المغرب                                                            
                                                           ( من وحي شغب الطفولة)
   أحشر جمجمتي الصغيرة في قبعة باهتة، منتوفة الجنبات، تغوص فيها حتى الأذنين، وأقصد المرآة، أتمعنني جيدا من ألفي إلى يائي، تعكس صورتي مشوهة، فأعدل موضع القبعة من جمجمتي،  أميلها جهة اليمين كما يفعل رعاة البقر، وأتمتم كالمجنون:
-  أنا قرصان الكرايب، هو أنا، وأنا هو، خلقنا معا لركوب المخاطر و المغامرات، نخترق جزر الوقواق، ونعبر -بنجاح- رمال صحراء الثلث الخالي العائمة، نمتطي صهوة البجاسوس، وعلى جناح العنقاء نحلق، نطير إلى الجزر البعيدة، فنظفر بروائع كنوز الدنيا دون غيرنا٠
   تفتنني الخرائط حد الجنون، أنتزعها من كتب الجغرافيا؛ وأفضل منها خريطة الشريف الإدريسي لأنها تشبه خرائط الكنوز، وأعشقها ملونة؛ وبخطوط مضغوطةـ أنشرها فوق مكتبي الصغير، وآخذ قضيبا حديديا، أجس به نبض مسالك تلك المتاهات الباهتة، أقتفي أثر مداخلها ومخارجها المرسومة بدقة، أو هكذا يبدو لي، وكأني أنوب عن كبار القراصنة، أدخل من هنا وأخرج من هناك، وأنا كفيل ضخم أدخل من الأذن اليمنى وأخرج من اليسرى.
    يكبر في نفسي حلم مجنون وبلا حدود : أحلم بأن أظفر بكنوز الدنيا في برها وبحرها، فأصاب بنوبة هذيان وهلوسات٠ فهذه كنوز إرم تحت قدمي، ها هنا مرقد ملوك عاد، ها هم أمامي تحفهم السواري الرخامية المرصعة بالذهب كشجيرات الدفلى تحف وادي قريتنا، وربما تقبع تيجانهم الخرافية المزخرفة بالذهب والماس هنا أو هناك قريبا مني، إني أحفظ الآية (ألم تر كيف فعل بعاد إرم ذات العماد)٠
       يشد قرصان الكرايب أذني شدا، يحكها حد الألم، تكاد تنفجر، ويوشوش لي مشجعا:
       - إنها لك يا ولد، حتما ستجدها، ستظفر بها دون غيرك٠  
        فأذوب  في هذا القرصان المشاغب، أحل فيه حلولا صوفيا، أنفش أشواك دلدلي، وأتوعد أخي بالهزيمة، فقرصاني هزم أعتى قراصنة البحر و أقوى صائدي الكنوز، بذكائه ودهائه اكتسح الجزر البعيدة وظفر بكنوزها، وجرع القاصي والداني من هؤلاء القراصنة  مرارة الهزيمة٠
  أنا أيضا- ببركة قرصاني - سأنتصر على هؤلاء الجرذان؛ سألزمهم جحورهم، سأذيق هذه العصابة التي يتزعمها أخي طعم الانكسار والهزيمة، فأنا قرصان البحر لا يشق لي غبار، سأتحداهم وأتحدى أخي، سأعثر على ذلك الكنز الذي حدثنا عنه أبي ذات سمر في ليلة باردة، ذلك  المطمور في مكان ما تحت جذع شجرة الرمان؛ تلك الرعناء الثخينة٠
      كيف يستطيعون هزيمتي؟ فأنا المغامر، أنا المقامر، أنا المخاطر، خبرت كل مجاهيل مغارات جزيرة الكنز السحرية ومغامرات أبطالها، وتشبعت بسحر علاء الدين وعجائب مصباحه السحري٠ كيف لا؟ وأنا علامة قسمي في عالم الغرائب، وأحق عجائب الدنيا من هرم الجيزة إلى إلى حدائق بابل إلى منارة الإسكندرية، فحتى معلمي المستكرش الأصلع كاد يبصم لي بالعشرة لولا بعض من عجرفته وأنانيته، ورغم ذلك، عندما كان يريد أن يسرق من وقتنا قسطا من الراحة، يكلفني بأن أحكي لهم حكاية قرصان الكرايب وقراصنة جزيرة الكنز، فأحكيها لهم في جرعة ماء، وأتقمص شخصيات أبطالها في الحركات والسكنات، وأدون أسماء زمرة مشاغبين يتعمدون هد بناء الحكاية فوق رأسي، وإتلاف رأس الخيط في بكرتي، ودون رحمة، تخضب عصاه المسننة بنانهم، فأبالغ في التشفي فيهم ، والتباهي عليهم  بما أعرف٠
     أعتلي المنصة، أتجاوز تلك الرؤوس المكورة كحبات البرتقال ببضع سنتمرات، تلتهمني عشرات العيون المتعطشة لسردي، تكاد تجردني من أسمالي الرثة، أدور حول نفسي دورة خدروفية كاملة، وأتمسك بتلابيب قرصان الكرايب، فأبحر بهم حيث يبحر٠ يتطلعون إلي بأعناقهم، فيرفعونني درجات، أحس أني صاحب شأن عظيم، أغتر كثيرا، فأتجاوز حجمي كبالون مشحون بالهواء زيادة٠
    يندس أخي بين هؤلاء الجهلة، تقتنصه عيني، تتسارع دقات قلبي، فأسمع حروفي تكركر في أعلى سقف حنكي كحصيات تقع في قاع بئرعميق، أفقد بوصلتي في بحر القراصنة، وأتلف مسالك جزيرة الكنز، وأفلت تلابيب قرصان الكرايب٠ أعرفه جيدا، إنه أخي، فهو أكثر مني تمرسا وحنكة بعالم المغامرات، أعرف أنه أنهى حفظ سيرة حمزة البهلوان، وعنترة بن شداد، وسيف ذي يزن، وتوج محفوظه هذا برصيد مهم من ألف ليلة وليلة، وهو لم يتجاوز صفه الخامس٠
     يتظاهر بالاستماع إلي، لكني أبلع لساني، ويتوقف مركبي في عرض البحر، لم أكن أطمئن إلى سلوكه الشيطاني، يرمقني بسخرية واستهزاء، فيركل قلبي بعنف في جنبات صدري، أشعر به يهدد عرشي، ويكسر عودي ويحطم عمودي بين هذه الشرذمة من  الأغبياء، فأتحاشى نظراته، لا أريد أن أدخل معه  في صراع أخرج منه بخسائر ثقيلة، فكلما راهنني يخسرني كل رهاناتي٠
     كالقط ينط إلى المنصة، يزاحمني، يكاد يزيحني من مكاني، ويتحداني صراحة أمام الجميع، فتنهال عليه تصفيقاتهم كحبات البرد، ويقول ساخرا:
    -  يا قرصان الكرايب، ألا تظن أني -أنا فارس البر- سأهزمك يا قرصان البحر، ألا تعتقد أن سيف عنترة سيهزمك، وسيدمر مركبك ويتركك عرضة لقواطع قروش البحر؟ إن أبجر عنترة أسرع من سفينتك التي تتهادى في البحر ثقيلة كفيل ضخم؟
      أسرط ريقي، يخبو بريقي، أمسح عرقي الناز بغزارة من جبهتي وأجيبه:
      - ومن منحك كل هذه الثقة في النفس يا أخي، فقرصاني فارس بحر  وعنترة فارس بر، وشتان بين البر والبحر٠
    يخبط الأرض بقدميه الحافيتين ويبالغ في التحدي:
    - إذن  لماذا لا  نلعب لعبة القرصان والكنز؟
    - ماذا تقصد يا أخي ؟
    - إذا تحدى قرصانك أشرس قراصنة البحر، وظفر دونهم بكنوز جزر الكنوز، لماذا لاتعثر أنت أيضا – ببركة قرصانك - على كنزنا الذي سندفنه في مكان ما هنا أو هناك؟      
     أمرر راحتي على جبيني العرقان، وأمسح بنظراتي  تلك الرؤوس المتراصة كحبيبات العنب، وأقول بنبرة لا تخلو من صرامة :
   -  أقبل عرضك، وأعلن عليك التحدي يا أخي ٠
   -  إذن، ستختفي عن أنظارنا لحظة، حتى نتمكن من تهيئ الخريطة وبعد ذلك  نناديك لتعود٠
     بعد هنيهة صاحوا جميعا، وبحماس زائد:
    - هيا ٠٠٠هيا٠٠٠ تعالى، فالخريطة جاهزة يا قرصان الكرايب٠  
    الخريطة على شكل خربشات، مرسومة على ورقة نتفها أخي من كراسته المدرسية، وحدد فيها ثلاثة مواقع، وتعمد تبسيط اكتشاف الموقع المقصود، وبخطة ذكية ومدروسة بدقة متناهية٠ وتعبر صورة قرصان الكرايب ذاكرتي المثقوبة، أتخيله يصارع عتاة القراصنة في عرض البحر، ويفرم بسيفه أجسادهم فرم شرائح اللحم.
     أتمعن المكان جيدا، فيقودني حدسي إلى الموقع الثالث، تعمد أخي أن يترك عليه مؤشرات تدل عليه.
  كان كومة  تراب رطبة مبللة، لكنها ما تزال ندية،  أصرخ بحماس شديد:
     - ها هو موقع الكنز، انهزم عنترة يا أخي ٠
       أدس أصابعي في تلك الكومة من التراب: أشعر بسخونة غريبة، شيء لزج ساخن تحت التراب، أحرر منه أصابعي بسرعة، فيتصبب العرق من جبيني غزيرا: أصابعي ملطخة بتراب مبلل، تفوح منه رائحة كريهة جدا تزكم الأنوف، وتبعث على القيء حتى الإغماء٠
  تصيب الأشقياء نوبة ضحك هستيري ، فيركلون الأرض بأقدامهم ، و دموع الشماتة تمتزج بسعالهم و مخاطهم الأصفر، أما أخي فيصيح منتشيا بالنصر:
    -  هزم عنترة قرصانك يا قرصان الكرايب، انتصر بري على بحرك يا أخي ٠
     أضع  أصابعي على أنفي، أتحسس الرائحة، أريد تحديد مصدرها، فأصرخ مذعورا، وكأني أصبت بصعقة كهربائية:
     -  يا إلهي هذه رائحة البراز، والله إنه البراز٠٠٠البراز٠٠٠البراز٠٠٠
  أطلق ساقي للريح  أعدو كالمجنون، أبحث عن ماء أغتسل به، أو أي شيء يخلصني من هذه الرائحة الكريهة. ويمطرني الأشقياء بقهقهات السخرية غيثا مدرارا، فأكلم نفسي معاتبا أخي وقرصان الكرايب:
   - كسرت  شوكتي يا  أخي، طعنتني في الظهر يا  قرصان الكرايب، ما كان عليك أن تهديني إلى كومة براز ٠

No comments:

Post a Comment