ذاكرة تتحدى الزهايمر
كان يسير _ شارد الذهن،غائم النظرات_ مع الجموع المتدفقة التي خرجت لتودع مدّرسة القرية الوحيدة.
يومها لم يكن معتادا متابعة الفتاة للتعليم ،ومن ثم العمل.
معظم الذين خرجوا لتشييعها كانوا يوما تلامذتها ،زرعت في نفوسهم الثقة وحب العلم،كثير منهم تابعوا دراساتهم وصاروا مدرسين ومهندسين وأطباء.......ومنهم من ذاد عن الوطن كضباط في الجيش خلال حروبه المريرة......لم يكن من هؤلاء ،لم يكن يوما تلميذا لتعلمه ،بل كان مدرسة عشق مكتوم.......
تقدم منه أحد المشيعين وسأله عن اسمه لأنه بدا وحيدا تائها....لايعرف اسمه.ولا من هو منذ أن غزا الزهايمر عقله....
غادره الرجل بعد أن يئس من معرفة أي شيء يتعلق به...
غادر المشيعون المكان ،وبقي وحيدا جالساعلى حجر كبيرة هناك......
الشمس تميل نحو الغروب،وتلقي على وجهه ضياء الوداع المشرب بالحمرة ،لتلمع في عينيه الدموع وهو ينظر نحو اتلة التراب الصغيرة التي ضمت جسد من أحب.
طال جلوسه أمامها،ودموعه تنثال على خديه.....نعم إنه يتذكر ماضيه بجمال تفاصيله.
تذكر (آمال)تلك الصغيرة التي كان يكبرها ببضع سنوات،ورغم ذلك كانت تسبقه في المدرسة بصفين.......عندهم يقضي الكثير من الوقت بين أخوتها بحكم القرابة.
لم يكن بمقدوره إسعادها إلا بما كان يحمله إليهم من اللبن والحليب من مزرعتهم ومن مواشيهم.....ويفرح كثيرا كلما أبدت إعجابهابمهارة أمه،الفلاحة النشيطة،وتكتمل سعادته عندما يبلّغ أمه إعجابها وتحياتها.
لم ينس أنه كان يحتفظ بجلابية نظيفة دائما ،فاتحة اللون ،لأنها عبرت يوما عن نفورها من الألوان الداكنة ،تلك الجلابية لايرتديها إلا حين يزورهم لأنهاسريعة الاتساخ في ريفهم المغبرّ.
لم يكن يهوى الدراسة مثلها،ولكنه يهوى ضفائرها وثوبها المزهر الطويل الذي كانت ترتديه في البيت.
حبه يكبر وينمو كلما كبرت ونمت ،كمايكبر وينمو الفارق بينهما....لم يكن العلم وحده الحاجز ،كانت الوسامة والجمال ،كانت جميلة ،ولم يكن وسيما.
هي كشتلة الحبق ووردةالمنثور تزداد سحرا.......حازت الشهادة الثانوية ودخلت معهد التعليم الإبتدائي ،لتصبح معلمة القرية المحبوبة ،بينما لم يستطع هو تجاوز المرحلة الابتدائية.
لم يبق في القرية شاب_سواه_إلا وتقدم لخطبتها.
كانت ترفض كل خاطب يريد انتزاعها من قريتها،ليغرسهافي مدينة (ما) هي كالوردة البرية لاتنمو إلا في تربتها.
كيف تتخلى عن اثوابها الريفية ،وعن أمها وأخوتها وهي أكبرهم بعد رحيل والدها منذ عام.
مايوجعه أنه يعرف أنها تعرف وتشعر بحبه الجنوني لها ،ولكنها لاتستطيع مجاراته،فهو ليس بفتى أحلامها،كانت تهوى قراءة القصص لكبار المؤلفين.....وعندما تحدثه عن إحداها يبقى فاغرا فمه مدهوشا ،ولم يكن وسيما......
هو يعرف جيدا أنها تحترمه كثيرا.....ويحس ذلك في تعليقها على سمرة وجهه وقد لوحتها شمس الحقول وخشونة يديه اللتين شققهما المعول والمنجل
كم تمنى لو أنها أقل علما وجمالا ،ولكنها أضغاث أحلام تذروها رياح الواقع.
أخيرا قررت أمه تزويجه من ابنة أختها لتساعدهافي أعمالها الكثيرة التي لم تعد لكبرها قادرة على إنجازها....
ابنة خالته مثله انهت المرحلة الابتدائية ،وتميل إلى الجمال ،كان يستلطفها،ويعجبه نشاطهاوعملها الدؤوب في الحقل وتربية المواشي.
رضخ لرغبة أمه......ولكنه لم ينم ليلتها.....استلقى على المصطبة وتحت ضوء القمر وبكى.....وبكى.......
رغم جمال تلك الليلةالمقمرة إلا أنه رآها كئيبة كروحه المسلوبة.
ازداد حزنه عندما رأى فرحتها بقراره....أمسكت كلتا يديه وباركت له.......كانت يداها باردتان كشعورها نحوه........بينما خفق قلبه بين ضلوعه حتى كاد ان يحطمها.
يومها أحس بأنها تعرف مدى ولهه بها ،وتريده أن ينزاح من طريقها.
في يوم العرس هي من زينت العروس ،فلم يكن في القرية من تقوم بتجميل العرائس ،وضعت لها مكياجا خفيفا ،فخداها خشنتهما شمس الحقول ،نجحت بصعوبة في تزيينها ،وأخيرا زُفت إليه......
لم ينس أبداحبه الذي لم تسطع فيه ولا بارقة امل ،ومع تقدم الأيام كان الشرخ العلمي والثقافي بينهما يتسع،فهي وبعد سنوات قليلة ستحصل على شهادتها الجامعية.
لم يكن يائسا في حياته فوضعه المادي تحسن كثيرا ،وازداد عدد قطعانه من المواشي وأصبح لديه شاحنة لنقل منتجاته إلى المدن القريبة.
رزق بعد عام بطفلة جميلة أسماها(آمال)كان اسم عشقه الأول والوحيد.
آمال الصبية الجميلة تزوجت طبيب القرية ،قالها وهو يمضع الألم (مبارك )
مضت الأيام وكبرا،وظل يحتفظ بذاك السر العميق،الذي يؤنس وحشته وخاصة بعد وفاة زوجته......صحيح لم يقصر أبناؤه وبناته في العناية به وبرّه إلى درجة أنهم اصبحوا حديث القرية وخاصة بعد ان هاجمه الزهايمر واحتل ذاكرته ،ولم يعد يتعرف حتى على أبنائه وأقرب الناس إليه.
ولكن الحديث الذي شغل الجميع وأثار العجب هو ذهابه مع المشيعين وبكاؤه الشديد وهم يوارون جسدها مثواه الأخير.
كشف الزهايمر سره وما حاول إخفاءه طوال سنين العمر.
(تمت)
No comments:
Post a Comment