قراءة نقدية انطباعية لنص الشاعر عبدالرؤوف غضباني "المتوحد"
النص:
المتَوَحِّد
كان الشيخ حريصا على تحفيظ جميع أبنائه القرآن فكان منهم الرّبّاع والنّصَّاف ولم يختم منهم بعد أحد بما في ذلك ابنته فاطمة .وكان يلتقي عنده من زوجاته النفساء والأخرى حتى أصبح له من الأبناء الواحد وأخاه أبناء ضرائر لا يتفاوتون في السن إلا بقدر أيام معدودات فكان وهو الحريص على تسميتهم ما حُمّد وما عبّد منهم محمد ابن زوجته مباركة صنوا لمحمد الصغير بن زوجته أم السعد وكان محمد العربي صنوا لمحمد الحسين وكان محمد الهادي صنوا لمحمد الحبيب ويروى عن الشيخ على سبيل التندر أنه من فرط ما كثر عياله وقد أسن وضعفت ذاكرته أنه كان عند ساحته بعض أبنائه يلعبون فنادى أحدهم يستسقيه في إناء فشرب واستشفاه إبنه والويل له إن لم يفعل فرد عليه ثم أسر إليه يسأله ..(ما اسمك ياولد؟) وهو ابنه..
كان الشيخ قادريا فكان منه محبة في الشيخ عبد القادر الجيلاني أن سمّى أحد أبنائه باسمه وسمى أحد بناته أم الخير تيمنا بأم الخير والدة سيدي عبد القادر كما يسميه أكثر الناس على ألسنتهم فالتسييد تشريف عند المغاربة جميعا لا استعباد تراهم يتداولون ذلك بينهم على سبيل الاحترام حتى أصبحوا يختصرونها.. ففي المغرب الأقصى مثلا ترى أحدهم إذا نادى (يا سيد محمد) ينطقها (يا سي مو)....وما أكثر ما يثيرني في لهجة المغاربة من كلمات توحي بالفأل وطالع الخير فهم يسمون الرقم تسعة(تسعود) ويعبرون عن المضارع بربط حرف الكاف كقولهم مثلا إني بصدد التدخين (كَنِكْمِي) وقولهم لا أدخن...(مَا كَنِكْمِيشْ) ويربطون الفعل بحرف الغين للدلالة على المستقبل كقولهم غدا أزورك...(غِدَّه غَنْزُورِك) ..إن اللهجات عند سكان شمال إفريقيا من العرب لا تقل فصاحة عن لهجات المشارقة لو نصبر على تقصيها ومتابعتها....
كان عبد القادر حدثا لم يبلغ بعد الخامسة من عمره وكان أرمد لا يحسن التركيز وقد وضعت له أمه على ناظريه على سبيل التداوي وشما ظل معه حتى مات …
وكان منزويا لا يميل إلى الاندماج في إخوته وكان لا يحسن الكلام بطيئ الاستجابة للمعلومات حتى أن الشيخ أهمله على احتمال أن يكون يعاني من إعاقة ذهنية …
في تلك الفترة من بداية الثلاثينات لم يكن الطب إلا من وحي الموروث الشعبي في خلوط الزنجبيل والعسل والزيت والحبة السوداء واللوبان والقطران للأطفال في حالة الإسهال والشيح والعرعر والدباغ والرمث والسمن وحليب الإبل وكسرة الشعير وبيضة الدجاجة والجرجير والتبغ لعلاج عضة الكلاب وصدأ النحاس والزيت الساخن لعلاج عفنة اللهاث والثوم للسعة العقرب وحساء الدجاج للنفساء والبلح وشرائح التين البربري لعلاج الأنيميا والكي لعلاج الخلد ولحم الماعز لعلاج مرض الالتهاب الكبدي وخذ ما شئت …
والتمائم والتعاويذ والتمر لطرد الجن والأذى والحجامة لعلاج الضغط المرتفع ....
وخذ ما شئت من الطب العربي المتوارث فقد كان كل بيت يتدبر علاجه بنفسه
...
كان الشيخ مقيلا في بيت زوجته مباركة أم عبد القادر
الذي داهم عليه البيت قائلا له (يا سيدي....أريد أن أكرّر عليك) فنهره الشيخ وطرده وطلب من زوجته أن تحول بينه وبين ذلك الطفل المزعج فخرجت إليه وقد توارى عن عتبة الباب والتصق بالجدار باكيا بنشيج وحرقة وقد بخسه والده وهمّشه وأهمله …
سألته أمه:"ماذا تريد ؟"
فأجابها:" أريد أن أسمع سيدي ما حفظت من القرآن."
فتوسطت له في ذلك فاستهجن الشيخ الأمر ورفض متسائلا من أين لهذا الطفل المعتوه أن يحفظ القرآن ....؟
فاستجاهت له بالله أن يسمعه على سبيل المجاملة ويدعه يهذي كما بدا له عسى أن يكف عن البكاء فأجلسه أمامه فثنى ركبتيه وطفق الصبي يميد ذات اليمين والشمال مرة وإلى الأمام والوراء مرة أخرى تماما كما يفعل إخوته وهم يحفظون…
تعوذ وبسمل وبدأ بالفاتحة بنطق سليم وصوت مبلّغ فكان لا ينتهي من آية حتى يستزيده الشيخ فيكمل دون خطإ أو سهو ثم إلى المعوذتين فالإخلاص فتب إلى الكافرون إلى ...الزلزلة ...إلى القلم ...والشيخ يسمع ويتثبت مذهولا مندهشا لا يصدق ما يرى حتى أتم الطفل حزبين كاملين جزء عم دونما لحن أو تصويب أو تلعثم أو سوء أداء لمخارج الحروف....
سأله وقد خامره الشك والريب في ما إذا كانت الجن قد علمته القرآن وقال له:" من أين لك هذا يابني..؟"فأجابه:" كنت ياسيدي أسترق السمع من خارج المسجد عن إخوتي من فجوات الحائط ."
بكى الشيخ حتى ابتل لحافه وأقسم ليجعلن منه شيخا حافظا.كان عبد القادر يحفظ من أول إملاء وختم القرآن في وقت قياسي وكان إخوته وهو يغط في نوم عميق يسألونه أن يواصل في المتشابهات من الآيات فيفتح عينيه ويواصل في نفس السياق الذي تريده من أي سورة قرآنية شئت وكان طلاب القرآن إذا حضر عبد القادر في المسابقات القرآنية الجهوية والوطنية لا يطمعون في الجوائز إلا بعده في الرتبة الثانية ....
عبدالرؤوف غضباني.
تصدير:
البنية الثقافية المعنوية لجماعة ما متأتية من البيئة والمحرضات الخارجية والوراثة المختلفة عن بيئة ومحرضات ومورثات جماعة أخرى وكل حدث يتم في إطار المجتمع يتألف من ثلاثة أقسام :
_قسم ظاهري أي ما ندركه بحواسنا
- قسم ما ورائي لا ندرك جل علله لحاجته إلى إعمال العقل والتركيز الشديد
- قسم خفي وعقولنا البشرية غير مؤهلة لاسكتناه علله.
هذا ما ذهب إليه لوبون فهو يرى أن للجماعة معنىً عادياً ونفسياً .
وأن تكوين الجماعة النفسية لا يحتاج إلى عدد كبير من الأفراد دائماً ولا إلى تزامن وجود الأفراد المكونين لها بالضرورة، بل يحتاج إلى اتحاد وصهر المشاعر والأفكار والآراء والمعتقدات لدى الأفراد وتوجهها نحو هدف أو أهداف معينة ويتم هذا الاتحاد عن طريق تقريب المورثات ( أفراد عائلة واحدة مثلاً ) والبيئة ( أفراد دين واحد أو قرية واحدة مثلاً ) والمحرضات الخارجية ( معتنقي أيديولوجية معينة مثلاً ) لهم
فتمحي اختلافاتهم إلى حد يصبح فيه الفرد صنواً للآخر داخل الجماعة النفسية
وينبه لوبون إلى أن الدافع اللاواعي أو اللاشعوري هو الذي يحرك الجماعة.
أما الدافع الواعي بحسب لوبون فهو محرك أساسي في سلوكات الأفراد المنعزلين والجماعات على حد سواء
قراءتي النقدية:
نص فاره يفتح نافذة على جانب من حياة الشاعر عبدالرؤوف غضباني.يمكن أن ندرجه ضمن جنس السير الذاتية حيث يسافر بنا الكاتب في جولة عبر الزمن والمكان لنرحل معه إلى ثلاثينيات القرن الماضي حيث مسقط رأسه ومنبت أجداده "آل الغضباني".
قرأت قصة من صميم الواقع فيها حكاية شيقة للعم عبدالقادر صاغها الكاتب بلغة شاعرية وأسلوب تربوي يشد القارئ للنص.
يقولGuy de Maupassant :"لا يتمثل هدف كاتب القصة في سرد حكاية ولا في تسليتنا وإثارة عواطفنا بل في إجبارنا على التفكير في المغزى الخفي للأحداث. "
ويبدو أن الأستاذ عبدالرؤوف قد بدأ "يعتق" نصوصه في "دن حكاياته"كما كتب في قصيدته(أنا مثلا )وهذا ما يغري قلمي بتأويل ما ذهب إليه بعنونة نصه ب"المتوحد"،مفردة معرفة غازل بها السارد القارئ ونأى عن التنكير عن وعي لأنه يريد لنا أن نبتعد عن الأحكام المسبقة فلم يقيد المتوحد ولم يقلل من شأنه أو ينتقيه لنكتشف مفارقة صادمة تنبئ عن شيخ جليل وجهبذ حافظ للقرآن.
كل ذلك بأسلوب سردي محكم البناء استعمل فيه تقنية التضمين (المرورالخاطف على اللهجة المغربية والاستفاضة في وصف منافع الطب البديل المعتمد على ما تهبه الطبيعة للبشر في ذلك الريف المنسي الذي لم تدنسه العولمة بعد. )إضافة إلى القصدية المعرفية فالسارد يكشف عن وجهه منذ الوهلة الأولى ويطرح إرهاصات واقع بعيد فينقل لنا صورا واقعية عن مجتمعه المصغر (التعدد،كثرة العيال إلى حد عدم تذكر أسمائهم مما أدى إلى ظلم بعضهم دون قصد"العم المتوحد"وغياب المدرسة كليا ليستعيض عنها الجد بتحفيظ أبنائه القرآن الكريم الذي كان ومازال مصدرا للمعرفة والقيم المثلى )
كما استفاد الكاتب من الوصف موضوعيا وذاتيا وأبدع في توظيفه خلال سرد حكاية انطوت على حكايات موازية ورديفة.
واللغة هنا لم تقتصر على السرد والوصف فقط بل كانت حمالة رسائل مشفرة وكما معرفيا يحيلنا على الثقافة الموسوعية للشاعر الفنان والمربي القدير الغضباني.
ولنا أن نتساءل هل اكتفى الكاتب المؤرخ بسرد الأحداث والوقائع بحيادية أم سقط في عدم الموضوعية فلم يسائل ماضيه وهو يسلط شعاع قلمه على بيئة نشأته ليظهر لنا أحوالها الإجتماعية والنفسية وخصائصها السلوكية فأضاف عليهم إشراق حبره وأسدل عليهم ستائر نورانية بما في كلماته من أبعاد أدبية وصوفية وصور موغلة في الواقعية؟
فالسرد كانت له الكلمة الفصل وقد أغفل الموقف عمدا ليجعل الذات الإنسانية القيمة الأسمى على علاتها وفي كل تمظهراتها وكأنه يعتنق ما ذهب إليه جان بول سارتر في قوله:"إن الكلمة ستبقى دوما أهم من أي موقف."ولذلك استخدم ألفاظا وأفعالا موحية وهو يمارس متعة الكتابة والفخر في آن وهنا تكمن قوة النص.فهو مفاخر بجذوره معتز بها ومتحمس لها بعيدا عن جلد الذات وعن التصوير النمطي للماضي كحقبة اتسمت بالجهل والفقر والتردي
و بقدر ماكان المكان ضيقا شكلا كان عميقا وممتدا مضمونا ومعنى.
وأختم مقالتي هذه من حيث بدأت…
باعتبار هذا النص رحلة وجدانية إلى حقبة مضت بكل ما يحيط بها من هالة التقدير وعبق الجذور عدت منه أكثر امتلاء واعتزازا بذلك الزمن الجميل وقد شقت هذه الذكريات بعض"الصلد البارد في قلبي"كما عبر شاعرنا في قصيدته "طاقتي المهدورة"لأشفى مثله تماما من ذعر هدد ذاكرتي وأنبش كما نبش بأنامل الإبداع في أحفورة الوطن،مسقط الرأس.
رحل الجدود وقد خلفوا مضغا تعبق إيمانا وتضوع أدبا وشاعرية ومبدعنا كاتب النص أحدها.
ما أجمل أن "أفتح نوافذ بيتي كي تهب عليه ريح الثقافات ولكن دون ان تقتلعني من جذوري"كما قال العظيم غاندي.
بقلمي :منى أحمد البريكي/تونس
No comments:
Post a Comment