الجن
منذ فترة طويلة وأنا انتظر تلك اللحظة التي اهجر فيها هذا المجتمع البربري المجنون الذي أعيش فيه ولو لمدة زمنية قصيرة. سآخذ اجازة لبضعة أيام اختلي فيها بنفسي .. أبحث فيها عن روحي الضائعة التائهة بين زحام هذا العالم المادي المجنون الذي تحول فيه البشر إلى وحوش. جاء موعد أجازتي السنوية، سأغادر، اتخذت وجهتي، بجانب قريتي الصغيرة هناك جزيرة صغيرة مهجورة يعتقد الناس أنها مسكونة بالجن . اسموها الجزيرة المسكونة، ولها اسم آخر جزيرة الشيطان . لا يرغب أحد بالاقتراب منها. تحدث العجائز فيها عن قصص الجن الذين يطيرون. وعن السحر الأسود .حتى اصبحت اسطورة لا يجرؤ أحد الاقتراب منها.
لم أؤمن يوما بالجن ولا باساطير الأجداد حول الجزيرة. كانت مناسبة جدا لي للاستراخاء لن يجرؤ أحد من البشر على الاقتراب مني.
حملت امتعتي، ودعت عائلتي وغادرت. الجزيرة لا تبعد سوى بضعة كيلو مترات سأصل مساءا.
عند وصولي و بعد ان اجتزت المضيق المائي الصغير بدت لي اشبه بقلعة شيطانية. إنها مليئة بالحجارة التي تشبه صواعد ونوازل الكهوف. لا يمكن التجول في هذا الجزيرة البركانية الا بصعوبة، ناهيك عن آلاف الطيور التي تستوطنها وتلك الاصوات المرعبة التي تصدرها.
أعلى التلة نصبت خيمتي. اتعبتني الرحلة الشاقة.. فنمت مبكرا.
في اليوم التالي: الصباح كان رائعا. قطرات الندى تلتحف كل شيء. صوت الأمواج وهي تضرب الصخور وتنهش في جسد الجزيرة الصغيرة مؤثر جدا. يوقعه أسراب من طيور البحر ونوارسها برقصات تفيض جمالا وسعادة .. الهواء منعشا. وروحي التي تتوق للسكون ذابت في هذه الموسيقى السرمدية الطبيعية.
مر أيام عديدة الآن.. وكل مافي جوارحي سكن كضوء القمر على صفحة بحيرة باردة. إني أمارس طقوس الاسترخاء لأصل إلى ذلك الإنسان القابع في أعماقي. تلك الروح التي فقدت كل انسانيتها في مجتمعي الصغير الهالك..
اليوم بعد غروب الشمس تمشيت قليلا في الجزيرة. لم أصدق ما تراه عيناي. مجموعة من الصغار لا يتجاوز أطوالهم المتر يمرون بجانبي مسرعين يضحكون دون أن يبالوا بي. كأنهم لم يروني.
عدت مسرعا الى خيمتي سأغادر الجزيرة . ان ما رأيته ليس حلما . أنهم الجن . وإن أساطير اجدادي وحكماء قريتي حقيقة. استملكني الرعب وأنا أرى أقمار كثيرة في السماء تضئ الجزيرة. برغم غياب الشمس بدت الجزيرة في سمائها تشبه ليلة البدر في اكتماله بل كأشد ليلة من ليالي البدر في قريتي .كل شيء واضح تماما .
حاولت الهروب لكن قدماي لا تتحركان ابدا ابدا .
تسمرت في خيمتي مرعوبا. وأنا أفكر بهذا الذي رأيته. قررت انتظار الصباح. حين أشرقت الشمس كان كل شيء في الجزيرة طبيعيا .. عبث الريح في الأوراق .وسوط الموج للصخور. والعصافير تحتفل بميلاد يوم جديد تطير في كل مكان. أقنعت نفسي أنا أبقى وأن ما شاهدته لم يكن سوى حلما مخيفا.
بعد الغروب وبعد أن هدأت أصوات الجزيرة ظهرت الأقمار من جديد .تحولت قليلا لاكتشاف سر هذا الليل الغريب الذي حل. أسفل الوادي هناك المئات من السكان لهذه الجزيرة.أطوالهم لا تزيد عن المتر عيونهم مرسومة بشكل طولي. لهم أذان حادة طويلة .منهم الكبير والصغير. منهم الذكر ومنهم الأنثى يبدو أن قريتهم مليئة بالحب. الجميع يبتسم. الجميع يتساعد في العمل. لكن الغريب برغم اقترابي منهم لم يكن أحد منهم يراني. إني أراهم ولا يروني. حاولت اصدار بعض الأصوات لكن دون جدوى. تملكني الذهول. فجأة جاء احدهم من بعيد راكضا صائحا يحمل عصفورا ميتا على ما يبدو. تحلق الجميع حوله . اقترب الكاهن وأخذ يصيح أن من قام بهذا العمل لا يمكن الا أن يكون إنسيا.
وفجأة نظر باتجاهي وصاح إني أشعر بوجود إنسي بالقرب منا إني أشعر به. ضجت القرية وهرب الجميع في كل مكان كطيور فرت من قسورة. اخذ الكاهن يصيح اقتربوا لا تخافوا . لن اجعله يؤذيكم ..واخذ يقترب مني ويتمتم بكلمات ويقسم علي بالله أن ابتعد . ان بعده عني لا يزيد عن متر ربما ولا يراني . وأنا مذهول مما أرى وأسمع . يصيح الجميع بصوت واحد .. ابتعد ابتعد أيها الأنسي الشرير. اخذوا برش ماء مقدس في كل اتجاه ليبعدوني . ثم اشعلوا بخورا غريبا كاد أن يذهب ببصري فهربت مذعورا هاربا إلى قريتي.
حين وصولي القرية صاح أحدهم لقد عاد. فهرع الجميع إلي من كل اتجاه. كانت ثيابي ممزقة وشعري قد طال كثيرا، حافي القدمين غائر العينين. جاءت زوجتي. اين كنت لقد اخبرتنا أنك ستذهب لأيام ومنذ شهور ونحن نبحث عنك. صاح الصياد ربما تعرض لمس جن فقد شاهدت خياله مرارا في الجزيرة لكني لم أصدق نفسي. هيا احضروا شيخ القرية ليقرا عليه القرآن. اجتمع الجميع حولي وقاموا بقراءة القرآن ورش الماء على رأسي لطرد الجن الساكن في داخلي . قاموا بضربي لأخراج الجن وإخافته. احاول أن اخبرهم أني لم أمس من الجن .. وهم يصيحون هيا أيها الجن أخرج .. أخرج .. أخرجي أيتها الروح الملعونة. أحاول الحديث معهم لكني لم استطع النطق. احاول الهروب منهم وقدماى قد شلتا . اتلقى ضرباتهم بقسوة وانا أصيح في داخلي ليسوا هم ليسوا هم ....
بل أنتم .... ال ع ...د ..و.
عواد المخرازي
No comments:
Post a Comment