Saturday, November 16, 2019

صناديق و حفر ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / جهاد مقلد

قصة قصيرة
صناديق وحفر
بدأتهارواية منذ ربع قرن وضاعت أوراقها، وما علق في الذهن
اكتفيت به قصةقصيرة لذلك طالت سطورها
قال تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون.
(صدق الله العظيم)
_______صناديق وحُفر ______
  أين لتلك الطفلةالمسكينة أن تعلم بما يرمي القدر على البشر من غرائب
صبرت... تلاحقت أنفاسها... تململت حاولت التملص، من ضيقٍ لاتعرف له سببا
لقد كان هناك ما يضغط على جسدها الغض ابنةالثلاث سنوات من العمر... الطفلة الصغيرة التي لا تفهم من الدينا صبراً على بلاء ولاسبباً لعذاب...  ربما يكون  أيقظتها أحلام طفولية فصورت لها أن لعبتها هربت منها، أوسرقت!
استيقظت على ثِقلٍ يضغط على صدرها وظهرها يمنعها عن الحركة، لم تستطع تحمله تململت من جديد، حاولت التملص صاحت بوالدتها التي  تحتضنها، ولكن لامن مجيب!
خلّصت نفسها بصعوبةبالغةمن تحت أبط أمها، ومن طية ذراعها عليها. ساعدها صغر حجمها، وليونة عودها بأن تنسل من بين صدر أمها وذراعها بمجهود شديد... نهضت الطفلة بحثت حولها... أخيراً وجدت لعبتها التي صنعتها لها والدتها قبل أشهر من بقايا أقمشةتالفة، ضمتها إلى صدرها بحنان الطفولة... ثم انسلّت وإياها من جديد إلى فراش والدتها حاولت رفع يد أمها لتدخل تحت أبطها كما كانت قبل قليل، لتعودإلى حضنها الدافىء  ولكن دون جدوى. هزتها بلطف ثم بعنف، لكن لاحياة لمن تنادي!
لم تعرف الطفلة ما الذي حدث لأمها، استكانت للأمر، وتأبطت لعبتها ثم غفت بجانب والدتهامستغربة كيف لم تضمها إلى حضنها كعادتها... بدأ الفجر ينشر خيوطه ببطءٍ شديدٍ. وأخذ الضوء يتسرب إلى الغرفة الكئيبة من نافذة سُدتَّ لأكثر من نصفها بكومة كبيرة من الثياب المهملة، والباقي من زجاج عفا عليه الزمن وتشقق.
لم تشعر الطفلة بجسد والدها الذي عاد قبل قليل من الحقل. بعد أن روى أرضه طيلة الليل... كان دوره في الحصةالمائية.
حمل طفلته بلطف وحنان، ثم وضعها بهدوء شديد في فراشها الصغير الملاصق لفراش زوجتة. شمّها عدةمرات ثم قبّلها، وبالكاد لامس وجههابشفتيه كي لايوقظها.
ثم انسل بهدوء في فراش زوجته وهمه أن لاتصحو هذه على حركته أوتستيقظ.
فهو يعلم بماتعانيه زوجته من تعب طيلة النهار، ولكي يستعيد بعضاً مما خسر من نوم أثناء سهره المضني في سقاية أرضه.
دفع يده تحت رقبتها كعادته عندما يعود فجراً في مثل هذا اليوم، لكن يده لم تخترق مابين رقبتها والوسادة القاسية! عاد فطوقها بيده بلطف.
حاول أن يطوي ذراعه حول صدرها بعد أن مرّره من تحت أبطها بصعوبة لكنه لم يوفق أيضاً.
فجأة استرد يده بقوة وقفز مرعوباً.
لقد لامست يده كتلة باردة متجمدة! قاسية.
رمى اللحاف بقوة، حرك جسد زوجته، تحرك بمجّمعه. هزها بعنف،  لم تكن سوى كتلة تهتز دفعة واحدة!
جس وجهها... يدها... لاشك إنها  قضت وهي نائمة... تلاحقت أنفاسه أخذ يلهث بشدة ويتساءل: ترى ما الأمر؟ المراة تتحرك مع كل هزة وكانها قطعة من خشبٍ! ضبط أعصابه، فطفلته تنام قربها ولا يريد ايقاظها،
غصّ بريقه وبح صوته وانهمرت دموعه، إلا انه تحمل الموقف... لم يصدر منه مايوقظ ابنته،  عادفنظر إلى زوجته التي غيبها الموت وهو يقول إنالله وإنا اليه راجعون... حمل طفلته بلطف شديد، وترك  دموعه تتساقط على ثوبها متحاشياً تناثرها على وجهها... نقلها إلى فراش والدته أي جدّتها التي تنام في الغرفة الأخرى،  أيقظ والدته وهمس ببضعة كلمات لحقته على أثرها.
ماتت الأم وانتهت سعادة الطفلة.
رفض اقتراح أمه بتزويجه
بأخرى.. وأصبح فراش طفلته حضنه لايغفو قبل أن تغفو هي..
ولكن كان القدر أشد قسوة على الفتاة مما مضى... لقد استفاقت الطفلة أحد الأيام على نواح وصراخ داخل البيت.
اكتملت مأساة الطفلة باستشهاد والدها في معارك الشرف والكرامة بعد أن أعيد سوقه للخدمة الأحتياطية... زكّى بدمه تراب وطنه.
لم يبق للمسكينة من حضن سوى حضن العجوز جدتها لأبيها بعد أن  بلغت العجوز من العمر عتياً.
 لكن الله قدر لها أن تعيش عقداً آخرمن الزمن، أو يزيد، وكأن الله أعطاها من العمر المزيد لتربي حفيدتها اليتيمة... أنهت الطفلة المرحلة الابتدائية في رحاب جدتها
لم تكن الفتاة تخاف الموت بقدر خوفها من رؤية الأموات.
لقد شكلت وفاة والدتها ثم والدها، وهي صغيرة عقدة لايمكن زوالها
ببساطة. كانت احياناً تستيقظ فجأة بعد منتصف الليل تتذكر كيف رأت  أمها مصّمدة بين نساء ينحن ويبكين ثم أعقب ذلك المشهد وفاة والدها!
دون أن تدري سبباً لتلك المصائب.
هاهي اليوم قد بلغت الخامسة عشر من عمرها.
قررت جدتها تزويجها لأول خاطبٍ
يدق بابها لقد رأت بأن الزواج يسترالفتاة... إن ماتت لن تجد الفتاة مكاناً آمناً تأوي اليه.
وقَدّر الله للفتاة شاباً في العشرين من عمره... تصادف مروره في الحي فأعجبه جمالها وبنيتها فقد كانت تبدو أكبر من سنها.
تزوجها... عاشت معه سعيدة ولم يفصح لها عن عمله.
كانت كلما سألته عن مهنته يجيب باقتضاب واضح:
_أساعد أبي في النجارة والحفر، فيربط المهنتين معاً
تسأله ماذا يعمل أبوك؟ فيقول: صناديقي!
ما أن يتاخر زوجها أحياناً في عمله حتى تبدأ بالبكاء ويتملكها الخوف عندما تتذكر طفولتها ومآسيها شرحت لعريسها قصتها كاملة قبل الزواج، ورأت على وجهه بعض القلق. ظنت أن ذلك كان بسبب تألمه على ما مر في طفولتها من رعب وعذاب... خاصة عندما تكرر سؤالها  عن طبيعة عمله فكان يتغير وجهه كثيراً، ويرد بكلام مبهم أويتحاشى الرد.
أخيرا ًتوفي حموها والد زوجها وهو الذي كان يحنُّ ويعطف عليها كثيراً. وعندما تسأله عن عمله... يكتفي بكلمة: الحمدلله.
 الآن زاد الحِمل، والحَمل عليها صعوبة، وأصبح العمل يأخذ كل وقت زوجها بعد وفاة والده، وأصبحت التزامات البيت كثيرة جداً من جلب للخضار وحاجيات البيت من السوق، إضافة إلى أعمالها المنزلية. خاصة وقد ظهر حمّلها جيداً وثقل حالها..
وأصبحت تتظايق من ركوب الباصات والسيارات وحمل الأغراض
لكنها ملزمة بكل هذا... في أحد الأيام سهت عن المحطة التي ستنزل فيها، ولم تنتبه إلا بعد مسافة بعيدة. وفاتتها عدة محطات.
وصل الباص إلى صناعية المدينة. نزلت على الرصيف واتجهت إلى الجهة المقابلة كي تنتظر مروره في طريق العودة... توجهت نحو  الموقف على الرصيف المقابل لتعود معه... عندها أوشكت على السقوط من الرعب! كان أمامها ماجعلها ترتجف خوفاً إنه دكان لحانوتي يعرض على جانبي الباب أشكال متنوعة من التوابيت المصنعة.
شُلّت قدماها، ولم تستطع للحظات متابعة السير ولكن كان لابد من ذلك.
اقتربت مرتجفة وهي تنظر إلى الأعلى كي تتحاشى رؤية التوابيت. لكن الأغرب أنها رأت الاسم الذي تصدى لناظريها إنهاتعرفه جيداً
كتب على اليافطة الاسم الأول لزوجها
لم تشك بشيئ... ربما تتشابه الأسماء ولكن المنظر مازال يرعبها
 اقتربت أكثر من الباب... رأته بشحمه ولحمه يدق المسامير في أحد صناديقه التي كان يقول لها إنه يصنعها مع أبيه دون أن يحدد ماهية تلك الصناديق.
نعم أنه زوجها!! ماذا ستفعل؟ لديها عقدة مؤلمة من فكرة الموت أصلاً، فكيف بالمهنة إذاً. لقدقال لهاسابقاً: أنه يساعد والده في النجارة، والحفر وهذا يعني بأنه يحفر القبور، ويصنع التوابيت.
وقفت على الرصيف أمام المحل والرعب يكاد أن ينتزع قلبها من صدرها!
 تتساءل كيف كنت أعيش معه؟ هل هو من البشر؟ هل سيضعونني يوماً في صندوق مثل هذا.
هل؟. هل؟  أسئلة محيرة لم تجد لها جواباً..نظرت إلى الشارع،  إلى السيارات المسرعة..صور لها عقلها تلك اللحظة بأن ترمي بنفسها أمام إحداها... قالت: لابد أن أتمدد حينذاك في أحد تلك الصناديق ولكنها عادت لتؤنب نفسها قائلة: ماذنب الطفل الذي ببطني حتى أقتله معي أليس الانتحار جريمة حرمها الله وكيف إن قتلت معي جنيني؟
هدأت أعصابها، وهي تقول بعد أن واتتها الشجاعة:
إنا لله وإنا اليه راجعون..أليس كلنا إلى زوال؟ وهل سينجو أحد من الموت؟
أخيراً استدارت نحو الدكان ورأت زوجها منهمكاً في عمله والعرق يقطر من جبينه. صاحت به والبسمةتغطي وجهها ألا تريد أيها الصناديقي مساعدة من زوجتك؟
جهاد مقلد/سوريا

No comments:

Post a Comment