Sunday, November 17, 2019

ابن العلمة و الثورة ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / صالح تومي

بسم الله الرحمان الرحيم  قصة للكاتب : صالح تومي

....................ابن العلمة ....والثورة .............

( عبد القادر , اشتقت لعمار يا عبد القادر ...كلمات تحشرج بها صدر العجوز قبل أن يلفظها لسانها , لتخرج لهيبا مشتعلا يحرق الأكباد ، ولتجعل من حديث نفسيهما الخفي والذاهب في غياهب الأحزان والآلام ، ناطقا منطوقا ، لكأنه البركان في ثورته ، المتقد في غليانه ،القاذف بشرره ، المنفس عن أوجاعه ،لتخرج هذه أبخرة وأنفاسا ليتنفس وليته ما تنفس فيسكب وعي أوجاعه وأحزانه دموعا وبكاء ومرارة علقما وعبارات سلوى .....عبد القادر اشتقت لعمار ياعبد القادر .....

كانت العجوز ، وهي تسأل وتستحضر ذكرى وليدها ، بلباسها البالي المرقع ، الذي ضاق الخيط به ذرعا إن حضر ، وهو يحاول شد ما تفرق منه وانفتح ، لم تسأل عن بطنها الخاوي المتجلد ، لم تسأل عن بطن زوجها المرابط جله بحشائش الجبل ، كانت قد ناولت أبناءها فتات ما عثرت عليه من قلة ملقى الطعام ، وأين الطعام ؟ طعام تتصيده اياد كثر في مزابل الغرب الأسياد

كان لها من الأولاد سبعة ، أربعة تلقفهم الموت ولم يفكوا عنهم أربطة اقمطتهم ، عمار وفاطمة واحمد ، هم من أخطأهم الموت من أولادها بقدرة قادر، حتى لا تخطئهم الحياة بشر مآسيها وأهوالها ، ذاقوا وأبواهم ألوان العذاب والألم هيهات ،هيهات ان يتذوقوا طعما للحياة فلم يبق من هذا الطعام إلا هذا الطيف ، طيف الأنس الذي قلما يجدوه حينما يجتمعوا ، ليتلهوا بأحاديث كثيرا ما كانت تصحبها دموع ظاهرة على محي الأبناء ، دفينة وخفية بعمق الآباء

كان الشيخ يمضي ، وقلبه الدامي ينزف وينزف والشوق لوليده والخوف عنه ، وكلام زوجه قد أرعد فهز ما اختمر بنفسه ، لتدفق سحب الأوجاع والأشواق بداخله سيول الألم ، ممطرة وأي مطر دموعا تقطر دما ،على خد شيخ هرم ، فتح عينيه في صباه على عذاب اسمه المستدمر ، لقد رأى أباه وجده على صهوة جيادهما ، يتعكزون بنادقهم  ويمشون بأحصنتهم ، يتربصون بعدوهم وهو يطلبهم ويطاردهم ، إلى أن خبث بخبثه فرماهم بنار الجوع بعد طول جهد فكانت أضرى عليهم من نار بنادقه ومدافعهم ، نار فرقت ما اجتمع لحربه وباعدت مأاتلف واتحد ، وأسكنت أو كادت تسكن طلق بنادقهم ، لكنها لم تسكن طلق النفوس الأبية الثائرة الرامية إلى حياة العز والشرف ، الساعية لاسترداد ارض الآباء والأجداد

كان عمار يلخص جذوة هذه الثورة العارمة في النفوس ، الضاربة في عمق تاريخ هذا الوطن ، كان من سكان مدينة فتية بولاية عريقة مدينة العلمة من ولاية سطيف ، لقد رضع عن أبويه وأجداده وأهل بلدته معنى الكرامة وارتوى بعز الشرف ، كان مندفعا تواقا للحرية ، حانقا على هذا المستعمر البغيض ، الذي ذهب في ظلمه وجرمه كل المذاهب ،، وزادته فرصة تعلمه وعيا وألما بواقع بلاده واحتكاكه الشاحب بنظرائه الفرنسيين ، لقد عرف ان نسجه غير نسجهم وان عليه ان يفتل في هذا النسج مع إخوانه ليظهروه ويظهروا به ، ولو كره المعتدون ،كان ثورة عارمة صبت في عنفوان الشباب فزادت لهيبا وأي لهيب وكيف لا وهو من تعارك مع أبنائهم ورفض ظلمهم وميزهم ، وهو من فتك ببعض جنودهم خفية ، ممن شاع بطشه وعظم جرمه ، عاش بطلا ، كما كانت أخته فاطمة ، التي دافعت عن شرفها بأظافرها وأسنانها ، لتشوه هذا الضابط الوحش ، ليجد وجهه دماء ودماء ، فيخرج مسدسه ليرديها شهيدة على مرأى أهل الحي كلهم

ماتت ابنتهم وابنة الحي الشريف شريفة طاهرة أما أخوها احمد الذي يكبر عمار ويكبرها ، فأنفاسه الأخيرة ، لفظها قبل أن تستشهد أخته وهو ماض في الدفاع عنها ، وفكها من مخالب الأعداء ، والأبوان في كل هذا غائبان حاضران بحسهما فحزنهما واعتزازهما لا يوصف عندما صعقهما الخبر، هناك اختلطت أحاسيس الشموخ والفخر ، بمشاعر الحزن والأسى ، لقد بكيا حتى خشي عمار عليهما ، وظل يلازمهما ، وينزع عنهما مرارة الأحزان ،فأمسى نورهما الذي يمشيان به ويتذوقان به ما في الحياة من طعم ، لا يأنسان إلا بحضوره ، ولا ينامان إلا بنومه ....ويوم أن جاء الأعداء يطلبونه للتجنيد ، كان أمرا مهولا جروه جرا ، وهو ساخط عليهم ،فتهاوو عليه بلوح بنادقهم ومعدنها ، فأردوه قتيلا او اشبه بالقتيل , والام في كل هذا تحاول ان تفتكه من بين ايديهم ,وهي صارخة باكية ,عمار عمار ,بني الى اين تأخذوه ؟الى اين ؟فلم يتركوها لصراخها ,بل رموا بها ارضا , لتعلق بثيابهم حابية شادة فيهم بحبال من يأس , والاب ماض نحوه ونحوها , وقد نال مانال من الدفه واللطم والركل والوخز , غير ابه بكل هذا , متماد متفان في ثورته ضدهم , رغم تقدم السن

سحبوا عمار كما تسحب الشاة للذبح بل سلخوه من اهله سلخا , وقلب الام يسيح دما , والاب ذاهل , والدماء على وجهه تحكي وتكتب قصة مستدمر أخذ كل شيء , ولم يبق غير هذا العبوس والوجوم والدموع

شاب يرحل ليجند في صفوف المستدمر , ليكون أحد جنوده في حربه ضد الالمان , لقد شاع  انذاك بين الاهالي والمجندين , بعد أن وعدت فرنسا وهي الكاذبة , أنها للاستقلال مانحة وممتنة , فلتفرح الجزائر, ولتحي أفراحها بافراح فرنسا ساعة الانتصار ....

مضت الشهور والأيام , والسنة بعد السنة والوالدان اقرب إلى الموت منهما إلى الحياة حياة بخلت عليهما بأنس وليدهما الوحيد , حياة إن أضحكت مرة فقد أبكت مرات ومرات ,مستدمر أرادان تكون هي السواد , هي الألم ,  هي المرارة والحرمان ....

...عبد القادر اشتقت لعمار يا عبد القادر ... هكذا يتجدد حديث العجوز, وتتجدد عبارات السلوى كلما امتلأ بها وعاء الحنين والألم والشيخ في كل هذا واجم ذاهب في حاله وحال زوجه , التي سبق دمعها سلواها , وقد تقدم العمر بهما وما عادت تقدر على هذا البلاء , بل ما عادت تقدر على خدمة نفسها , أما هي فقد تقدمت منه بعد ان شق على نفسها حاله وحالها ,لتجده باكيا , وما ألفت له دمعا مشاهدا , كان جلدا كالصخر لا تزلزله النوازل أما اليوم فقد أضحت دموعه تحكي حكاية عمره , وتقوس ظهره يخبر عن ثقل ألمه , وتجاعيد وجهه تروي جراحات نفسه , وشعره الأبيض يعبر عن رحلة قهر تعنونت بقهر هذا الأبيض للأسود من شعره , قبل أن يأذن المؤذن له في سنن الله في الخليقة

لقد حز في نفس الأم الباكية , بكاء شيخها وآلمها لشيخوخته , وهو الشامخ شموخ جبال هذا الوطن , وبكته الآن وقد كانت تبكي وليدها , فرفع رأسه إليها حانيا , ماسحا دمعه ودمعها , وأراد أن يصبرها , وما كان يدري أنها تريد أن تصبره ليأخذها اليه لتبكي عنده , ويبكي عندها محاولا  كل منهما تجفيف وتخفيف أحزان الآخر

... مشهد ليس بمسرحية , جنح بها خيال شاعر او كاتب ,او اخرجها مصور افلام او تراءت لناسخ احلام بخيوط الظلام ، بل هي حياة هذا الجزائري الذي اشرب المرارة , واستعبد وهو الحر واذل وهو العزيز , واهين وماكان له ان يهان ... ايها الجزائري الساكن في جوف الارض الطيبة ، ماكان لنا ان ننسى من جرعوك مرارة الحرمان ,واسقوك من كأس الذل ,وساقوك لسوق العبيد ليشتروك وليتهم اشتروا ...لن ننسى تأوهات الثكالى ، وصراخ الصبية وانين من لا حول له ولا قوة ... لن ننسى امهاتنا ، لن ننسى دموعهن ، لن ننسى جراحاتهن ، لن ننسى آهات العاجزين ، والمعذبين ,بنيران احقادك واطماعك , نبغضك وسنبقى نبغضك , لكأني بعمار يهمس لي الان ,وقد كان لا يثق بوعد محتل , او بعطاء ممتن

مضت الشهور لتنتصر فرنسا وحلفاؤها على الالمان ومن معه ، لتضع الحرب اوزارها ، لتخرج شعوب العالم كلها مهللة ومظهرة عظيم سعادتها ، بعيد الوقف العظيم ، لتهرع العجوز والشيخ وقد وشى ان الاستقلال قاب قوسين او أدنى ، وان الفرحة الكبرى ستجلب معها فرحة صغرى بعودة عمار , خرج الاهالي من مدينة العلمة ، ومن ولاية سطيف ، ومن كثير من مناطق هذا الوطن العزيز ، وخرج الشيخ والعجوز ليتظاهرا مع المتظاهرين ، ليطلبوا ويطالبوا بعيش كريم ، يافرنسا فنلت منا ماكنت ترغبين ، فهات ما ما كنت تعدين ، لكن هذا الغاشم المحتل ، كان إناؤه متسخا فنضح بما فيه ، فاسال دماء الجزائريين واغرق الشوارع بها وبجثث أصحابها لترسم لها صورة من الرعب ، صورة من الظلم ، صورة من الحقيقة التي كادت ان تخفى في لحظة حلم على كثير من أبناء هذا الوطن الأشم .

وصل عمار والأحداث على نهايتها ، والجثث في كل مكان،...............يتبع

No comments:

Post a Comment