عصيدة شهرزاد : قصة قصيرة ٠
صالح هشام/ الرباط/ المغرب ٠
الغرفة معتمة ضيقة، بالكاد تتسع لأربعة نفر: أنا٠٠٠ أخي الصغير٠٠٠ شهرزاد وشهريار٠ حيطانها مبلطة بتراب مخلوط بتبن وجير، مطرزة بشقوق كشعيرات البرق، تخترقها من أرضيتها الرطبة إلى سقفها القصديري، نوافدها بلا أبواب، لكن تسترفراغاتها ستائر مهترئة قديمة٠ من ثقوبها ينبعث نور نجوم شاردة في مدارها٠ وتتوسطها دعامة كبيرة من خشب الصنوبر، في أعلاها فانوس مشنوق، تغازل نسيمات متسربة من الخارج ضوء شمعته٠يجترالظلام الدامس ذلك الضوء الباهت، يسرطه حينا ثم يتفله حينا آخر، فنبتهج ونتضجر، وذلك حسب حركة هذا الضوء٠
ألصق صدري النحيل بركبة أمي اليمنى، وأنا أنتشي بسعفة نخيل تمررها بلطف على شعري الأشعث المنفوش٠ أخي الصغير يحتل ركبتها اليسرى٠ أما شهريار- كعادته - فيدركه الصباح، وفراخ الدجاج لم تلذ بخمها بعد: يشخر ويزفر، فيلفظ من جسده برودة تعب الضرع والزرع، فننتشي-نحن الصغار- كثيرا بهذه السمفونية المباركة، لأننا سنتخلص من سلطته، فنعيش لحظات بلا قيود، بعيداعن نواهيه وأوامره٠
هناك، في أقصى ركن من الغرفة، تعود شهريار أن ينام، ورأسه ملتصق بالسقف كالمشنوق، وعيناه مفتوحتان، فيحلو لأمي أن تشبهه بالخرنق ( صغير الأرنب )٠
تتربع شهرزاد على عرش البيت والحكاية في صدر الغرفة، قبالة قدر طينية قديمة، ترصد رقصات حبيبات العصيدة بانتشاء، وهي تغلي كحمم بركان فوق نار تخبو جمراتها، فتلقمها حطيبات يابسة، لتزرع فيها حياة جديدة، فيرقص القدر على إيقاع موسيقي مرتب، كقطرات المطر تتكسر فوق قصدير الغرفة، فيتكتك ويترتر:
- تك٠٠٠ ترتر ٠٠٠ تك ٠٠٠ترتر ٠٠٠تك٠٠٠ترتر٠٠٠
أصوات تشعرنا بنشوة عذبة، لكنها لا تخلو من وحشة٠ تخرج العصيدة عن طوع القدر، تقتحم حبيباتها الفوهة، هاربة من نار جهنم، وبمغرفة خشبية كبيرة تكبح أمي جماحها٠ تجتاح روائحها الطيبة أركان الغرفة، فتجوب تلك الديدان المسعورة متاهات مصاريننا، فتقتسم معنا العصيدة قبل أن تستقر في معداتنا:
- ملعقة ملعقة، لقيمة لقيمة، وبالتساوي: ملعقة لنا، وملعقة للحنش٠
ديدان وقحة، قاومت بإصرار عقاقير حكيمة القرية، فشاركتنا- قهرا- أرزاقنا، تنتفخ وتزداد سمنة في أمعائنا، فتزداد أجسادنا نحولا وهزالا٠
تدورعيناي كالمجنون، في رحلة مكوكية بين خطوط طالما أبهرتني: مرسومة بدقة على بلاط جدران الغرفة، تسير في اتجاهات مختلفة، ثم تتشظى عند ملتقى تراب الأرض بقصديرالسقف، وخطوط أخرى تتوسط حاجبي شهرزاد، كمتاهات تلتوي٠٠٠ تتعرج٠٠٠ ثم تستقيم على ذقنها، فتلوح حروف جمالها الباهت٠
تختلط علي خطوط خطها زمن عشوائي، وخطوط وشمتها وشامة بارعة، تتقن الصنعة٠ تتشظى هذه الرسوم عند مهوى القرط من أمي، وعندما تتجاوز حاجبيها،
وتشوش على دقة رسمها تجاعيد وحفيرات دقيقة، فتكاد تزيحها من مكانها٠
كل خط من خطوطها، وكل وشم من أوشامها، أتخيله مسلكا وعرا من مسالك محفوفة بمخاطر كثيرة٠ فمرة، أراه يعرج على صحراء الثلث الخالي، ومرة يعوج على جزيرة الوقواق، وأخرى يتيه في جزرمخيفة بعيدة، داخلها مفقود، والخارج منها مولود٠
تقطب أمي حاجبيها، تنكمش أوشامها، تعوج خطوطها، فتختل على وجهها قاعدة توازي الخطوط٠ حينئذ، تحزم حبال أشرعة مركبها على الصواري، وتتفحص مجاديفها بدقة، مجذافا مجذافا٠ فتعلن بداية الرحلة، بداية الإبحار بنا بعيدا، سفر طويل لا ترضاه إلا عجيبا غريبا من عالم الخيال إلى مدن الظلال، وأوكار الأرواح والأشباح٠
أثق في قدرتها على الإبحار، فهي ربان متمرس محنك٠ أتمسك بركبتها، أشدها إلي أكثر فأكثر، لا أريد أن تفلت مني دفة المركب، لا أريد أن أراوح مكاني على رمال الشاطئ، فتضيع مني رحلة رائعة٠
أخي الصغير، لا تحيد نظراته الزائغة عن قدر العصيدة، فيرقص رقصة حبيبات درة فوق جمرات ملتهبة كلما تنفست العصيدة، وهي تغلي٠ يراوده حلم صبياني لعين، يحلم٠٠٠يحلم٠٠٠يحلم بأن يرتمي في بركة كبيرة من العصيدة، أن يختفي فيها تماما، فيأكل حتى التخمة٠ يحلم بأن يتحول حشرة زجاجية شفافة، فتصول وتجول في قدر العصيدة من القاع إلى الفوهة، ليكسر سكاكين حادة تمزق أمعاءه، يسيل لعابه مالحا، أو بلا مذاق، فالجوع وحش شرش، يدمر فيه القدرة على تمييز الطعم والروائح٠
أمي شهرزاد بلا شهريار يحمل سيفا يتلمس رقبتها كل حين، ملكة بلا مملكة، فهي حرة في الإبحار كالفراشة في البراري، تطير في كتل من زبد ٠٠٠تحفظ كل العجائب والغرائب، تتقمص شخصيات أبطال حكاياتها بدقة، وتتقن كل الأدوار٠٠٠ فهي راوية مميزة، وسرادة لا يشق لها غبار، فكل ما تحكيه تؤمن به حقيقة لا خيالا، وبكل جوارحها تقتنع بواقعيته، لذلك كان أبي يسخر منها وينعتها بالمجنونة٠
تقطب حاجبا وترخي الآخر، وتمرر يديها الناعمتين على رأسي، وقد استقامت أشواكه كدلدل مرعوب، وتقول بصوت دافئ:
- اليوم، سنبحر إلى مملكة الكذب يا ولدي٠
حينها، أشعر بقلبي كبالون ينتفخ، ويرقص في جنبات صدري كطائر مذبوح، فيتكوم ريقي في حلقي، فأسرطه بصعوبة:
- وهل للكذب مملكة يا أمي؟
تعدل رأس أخي الصغير المتدلي على ركبتها، وقبل أن تحرك مجدافها، يعرقل هذا الوقح بداية الرحلة، فيصرخ، وعيناه ملتصقتان بقدر العصيدة:
- أمي ٠٠٠أمي ٠٠٠ العصيدة! العصيدة! العصيدة!
تنهره بامتعاض ملحوظ:
- ما بالها هذه العصيدة؟ ماذا دهاك يا ولدي؟
- أشم رائحة الاحتراق٠٠٠إنها تحترق يا أمي٠
- لا٠٠٠ لا يا ولدي، فربما الكلب القابع هناك شققت مصارينه فتنفس، أوأنك تشم رائحة احتراق أمعائك الفارغة، أما العصيدة، فها هي زاهية لاهية، ألم تسمعها تنتشي بترترتها وتكتكتهاالرائعة؟
وتعض شفتها السفلي، وتلتقطه من خديه الشاحبين بكلتا يديها، وتدغدغه بلطف كلبوءة تحمل صغيرها بين فكيها:
- إسمع٠٠٠ إسمع٠٠٠ ها هي تغني: تر٠٠ تر٠٠ تر ٠٠تر ٠٠تر٠ لا تقلق عليها، ولا تقاطعني مرة أخرى يا ولدي٠
أعيد النهر الجامح إلى سريره:
- فماذا عن مملكة الكذب؟ الكذب حرام يا أمي، فأنتم علمتمونا ذلك، فكيف تكون له مملكة وملك ورعية؟
تنفرج أساريرها، وتستقيم في جلستها:
- كبرت يا ولدي، ما أسعدني بك! الكذب هو: أن تضع الأبيض مكان الأسود، وأنت تعرف أنه لا لون يحل مكان الآخر ٠٠ أن تحول شروق الشمس غروبا، وغروبها شروقا، كأن تجعل نبات الصبار يقتات على لحم البشر، فكل كائن حي يكذب من أجل البقاء يا ولدي٠
- وهل الصدق يقتل يا أمي؟
- نعم يا ولدي، فشهرزاد تفلت من سيف شهريارلأنها تكذب عليه، والخيال كله كذب في كذب، كذلك الفراشة تكذب، فتنبت عينين جاحظتين على جناحيها لترعب البومة، فلولا هذه الحيلة لكانت في عداد الأموات٠
وتضحك حتى تكاد تدخل نوبة إغماء، وتقول:
- فأنا يا ولدي، لو لم أكذب على والدك لما أكرمني بحفينة من فواكه جافة
شهية من السوق الأسبوعي، أمدحه بما ليس فيه، فأقول له : أنت أروع رجل في العالم، فينفش ريشه كالديك الرومي، ويتوهم إطرائي حقيقة، فيجود علي بما ملكت يده حد الإسراف٠ فالكذب يا ولدي، مباح شريطة أن لا يضر الآخرين٠ فهذا ليس موضوع حكايتنا، اتركني أحكي لك حكاية الملك الكذاب٠
أضغط على ركبتها بقوة، وأبلع ريقي، فحكايات أمي غريبة، ووجبات دسمة٠
- في قديم الزمان، كانت مملكة بعيدة٠
أقاطع سردها بشيطنتي المعهودة:
- لكن يا أمي، أنتم تفعلونها كبيرة، وتلصقونها بزمن بعيد، ومكان بعيد، وأناس
لاتعرفونهم أصلا، ألا تلاحظين أن كل أفعالكم مبنية للمجهول؟ إنكم بذكاء تهربون من حقيقة ما تفعلون٠
تشعر بجرأتي تهد بناء الحكاية فوق رأسها، فتصرخ في وجهي بغضب:
- لا تقاطعني يا شيطان، دعني أحكي حكايتي: كانت مملكة الكذب تتمنطق بحزام كقوس قزح، بكل ألوان الكذب، أخضره، أبيضه، أسوده، أحمره٠٠٠
أترك ركبتها، أبتعد عنها قليلا، وأقاطعها مرة ثانية :
- وهل للكذب لون يا أمي، أنتم تلونون كذبكم، وأنتم تكذبون، قتقولون: هذه كذبة بيضاء، أوتسمون النبتة عندما تريدون التهامها٠
- اسمع يا ولد، كان يحكم مملكة الكذب ملك جبار طاغية، يعشق الكذب ويتباهى به، ومن لا يعرف الكذب يفصل رأسه عن جسده، وكان وزراؤه يحضرون له كل كذابي مملكته، فيعطون كل كذاب كيسا كبيرا، ويأمرونه بملئه كذبا، وإذا فشل في ذلك يجز السياف رقبته٠
أشعربرعب شديد، أتحسس قفاي، خفت سيف سياف الملك الكذاب، لكن رغم ذلك، أتابع حكاية أمي بلهفة، وأتساءل:
- كيف لهم أن يملؤوا أكياسهم بالكذب يا أمي؟
وبحماس زائد، تستمر في سرد أحداث الحكاية :
كانت الرؤوس تجز بالمئات يا ولدي، وكل رأس يقطع، يفتح شهية الملك لقطع المزيد من الرؤوس، وغضب ذات يوم، فصرخ في حاشيته:
- ألم تجدوا يا وزراء النحس من يملأ ولو كيسا واحدا في كل ربوع المملكة؟
يضغط أحد وزرائه على صدغيه، يفكر طويلا، فجأة يأتيه الفرج، فيقول:
- لا نعرف إلا كذابا يطير العنزة في السماء، يجعل لها جناحين، ويطعم البلابل والحساسين لحم الظأن، فهو كذاب ماهر، ونظنه سيفعلها -لا محالة - يا مولانا٠
يستبشر الملك خيرا، ويصيح فيهم:
- وماذا تنتظرون يا وزراء النحس، آتوني به حالا٠
فيحضرونه، يستقبله في مجلسه الموقر، ويقول له:
- حياتك رهينة بملء هذا الكيس من الكذب يا رجل، فإذا حالفك حظك ونجحت عينتك وزيرا لشؤون الكذب في مملكتي الموقرة، وإذا أخفقت فالسياف في انتظارك، يجزرأسك، يفصله عن جسدك، ويعلقه على مدخل المدينة، فيكون عبرة لكل من لا يحترم الكذب والكذابين٠
- هاتوني كيسكم يا مولاي٠
يشرع في عد أكاذيبه، وهم فاغرو الأفواه، يصدقونه:
- اليوم يا مولاي، فعلت كذا بوزيرك فلان، وفعلت كذا بوزيرتك فلانة، وفعلت كذا بحاجبك فلان، وفعلت كذا بحاجبتك فلانة، وفعلت بملك مملكة الكذب ك٠٠٠
وقبل أن يكمل كذبته، يصرخ فيهم الملك:
- أغلقوا الكيس٠٠٠ أغلقوه٠٠٠ أغلقوه٠٠٠ فقد امتلأ تماما٠ من الآن يا
كبير الكذابين، أنت وزير الكذب في مملكة الكذب٠
- وهكذا يا ولدي، ما بين (ك٠٠٠ وذا) يرغم الملك على إلغاء كل طقوس
الاحتفال بالكذب والكذابين، فيتوقف عن القتل، ويروح السياف في عطالة٠
وتعيش مئات الأرواح بين ك٠٠٠ و ذا٠ (ومشات حكايتي مع الواد٠٠٠الواد، وأكلت خبزة، وشربت برادا، وبقيت مع الأجواد)٠
يصطدم مركب أمي بصخور الشاطئك ثم تتشظى أشرعته على أمواج الواقع :
أخي الصغيريغط في نومه الثقيل، وفي نفسه شيء من عصيدة، انتظرها طويلا٠ العصيدة تهدأ، وتسكن ترترتها وتكتكتها٠ تلفظ النار أنفاسها إلى آخر جمرة٠
تضع أمي قصعة العصيدة مملوءة، مباشرة على أرض الغرفة العارية، توقظ أخي بصعوبة كبيرة، وهي تولول، تريده أن يتعشى، وأن لا يبيت على الطوى٠ يستيقظ، يقعي كالكلب، وهو يقاوم سكرات النوم، يفتح عينا ويسد الأخرى، عين واحدة ستفي بالغرض، يرعش رعشة نعاس لذيذة، فيضع الملعقة الأولى في فمه، والثانية في منخره، والثالثة فوق ثيابه، وهو نائم / صاح، حاضر/ غائب٠
- شررر٠٠٠شررر٠٠٠شررر٠٠٠شررر٠٠٠
أصيح مفزوعا:
- أمي، ألحقيني، أدركي العصيدة، أدركي القصعة، كارثة كبيرة، إنه يشرشرها مباشرة في العصيدة، لقد أفرغ متانته في قصعدة العصيدة يا أمي٠
- ماذا دهاك يا ولد؟
- الصغير ٠٠٠الصغيريا أمي، لقد بال في قصعة العصيدة٠
تهرول أمي، وهي تلطم وجهها، تضرب فخذيها، وتعض أصابعها٠ فتهوي عليه بلكمة قوية، فتقتل فيه تلك الحشرة الزجاجية، يصحو من غيبوبته مرعوبا، فيصرخ، ويبالغ في الصراخ، وهو يركل في كل الاتجاهات٠
يستفيق شهريار من لذة حلمه واحتلامه، ولم يدركه لا صياح ديك فجر ولا صباح، ولم تسكت شهرزاده عن كلامها المباح، فقط أدركه صياح غير مرغوب فيه، صياح أخي الصغير٠
وبحنق شديد: يتف ٠ ٠٠يشتم ٠٠٠ يسب:
- تفوووو٠٠٠ (زريعة القنب)٠٠٠ تفووو٠٠٠ البول والبراز حتى في قصعة
العصيدة٠٠٠ سلعة ناقصة ٠٠٠ وجوه الويل٠
وينتعل حذاءه مقلوبا، وهو يتمتم بغضب شديد :
- سأكمل نومي في البيدربين أكوام السنابل، يا سلالة إبليس٠
وتتلف أمي خطواته تحت جنح الليل، وهي تهرول وراءه، مقتفية أثره٠
No comments:
Post a Comment