العنوان في القصة القصيرة جدا واندياحات المعنى
قراءة في نص: استدراج للمبدع إيهاب عبد الله
متن النص:
استدراج
نضحت مسامنا قهراً، بصيص فجر يلوح، تَنَسَمْنَا أريجه، حَمَلَتْ رياحٌ غربيةٌ شجرةَ الخلدِ، أَبيتُ المقايضة، ظِلْي أخر مَنْ تذوقها، على ذؤابة السيوف كنا نهضم وجبتنا.
****************
لم يعد ممكنا التنكر لعلاقة القصة القصيرة جدا بواقعها، كما لم يعد خافيا أن من زخم هذا الواقع ومن مرارته، نضج ميسم هذا الجنس الأدبي وتشكلت ملامحه الفنية والجمالية وتحددت درجة تكثيفه التي ارتضاها جل المشتغلين بهذا الجنس، خصوصا في المجموعات الأدبية على الوسائط الاجتماعية، وما تسفر عنه من معايير تحكيمية أو قراءات نقدية للنصوص الققجية.
نحيل في هذا الصدد، على الطول المتحكم فيه، مثلا، أو النأي عن كل حشو أو ترهل لا يخدم سرعات القصة القصيرة جدا سواء من حيث النفس أو الدفق السردي أو من حيث الرغبة في اختراق ذهن المتلقي وإشراكه في عملية تمثيل سردي سريع ( على غرار التمثيل الضوئي) ودفعه نحو التموقف إزاء رسالة النص والتموقع في واقعه، في شكل جديد من التقاسم(( Le Partage الذي أصبح وسيلة كشف وفضح وحشد دعم من أجل إحداث موقف جمعي موحد، يمكن من خلاله إحداث الوعي والتغيير المنشودين( مثلما نشهد في وسائط التواصل وما أحدثته عمليات التقاسم عبرها من تغييرات وحراكات سريعة...).
يعتبر حسن اختيار العنوان من مفاتيح نجاح القصة القصيرة جدا، وعليه مناط الاشتغال الأكبر، ومنه تنطلق عملية فتح قناة التواصل الاول مع النص، ناهيك عن مساهمته في وضع فرضيات القراءة وتهييء افق انتظار المتلقي نحو القادم النصي. إنه نص موازي، يلعب في القصة القصيرة جدا دور تكثيف المكثف، وفي الوقت نفسه تمطيط المختزل عبر اسهامه في اندياحات المعنى. وهذا ما نجح فيه العنوان : استدراج . حيث نجد إحالة على نية مبيتة، وعلى خطة وحيلة، وأيضا على ماكر متربص وضحية غافلة (إذ غلب استعمال هذا المصدر على الخبث والإيقاع في حبائل الشر). ضحية فرض عليها كظم قهرها، لكن إناء صبرها ضاق فنضحت مسامها قهرا وئيدا، وعندما لاحت نسائم تغيير استبشرت بفرج وشيك، طوق نجاة خادع خُلب (غريب/ غربي جناس بالقلب يخدم حربائية المعنى لمتربص يتقن التخفي والتلون ) طوق طوًق الرقاب واستدرجها بفحيح الغواية نحو خطيئة بيع الوطن وخيانة الولاء بثمن ابليسي مسيل للعاب: شجرة الخلد السراب. مخطط شيطاني أطبق علينا لضعفنا من ضعفنا ومن ظلم ذوي القربى، فزين لنا وضع يدنا في يد عدونا لننحر رقابنا بأيدينا ونحتفل بخلدنا على نعوشنا. مقاومتنا للغواية كانت ضعيفة، سبقت فيها أحلامنا المقهورة ومصالحنا الضيقة ظلالنا المتلكئة، ومثل أسماك أغواها الطعم ظللنا نحملق في مذبحتنا وقد فصلت رؤوسنا والطعم يتسرب من حلوقنا نحو استدراج آخر. دوامة غواية لا نعيب الوقوع فيها، ولكن نعيب تكرار هذا الوقوع. نص بالغ السخاء في وصف واقع عربي ما تزال سمان خريفه تتلمظ بعجف "ربيعه".
هنيئا للمبدع إيهاب عبد الله بهذا النص العميق الناسف لسطحيات فكرنا العربي المستعد للتضحية ضد مصالحه وذاته
********
نص جميل صيغ بحرفية عالية
ReplyDelete