_ الحياةُ تأتي مرتين _
_________
لم أكن أعرف السباحة عندما صعدتُ إلى ظهر المركب ، بل لم أكنْ قد ركِبتُ البحرَ من قبل ، كنتُ فرداً من مجموعةٍ كبيرة تدافعتْ لركوب السفينة المائلة للاحمرار .
بعد أن استقرّ الوضع هناك جُلْتُ بنظراتي على ما حولي ، أمٌّ مع طفلها ، شابٌ وحيدْ ، نساءٌ على شكل مجموعة ، رجال من شتى الأعمار ، صبيّةٌ ترقدُ في محرابِ حبيبها ، العيونُ كانت شاحبةَ النظرات ، بينما القُبطانُ يُعلِنُ بدأ الرحلة مع طاقمه الذي لا أعلمُ عدده .
لَفَتَ انتباهي تلكَ الإطارات المستديرة على حوافِ المركب البحري ، والسترات البرتقالية المُعلّقة بالقرب مني ...
كان البحر يومها هادئاً ك رجلٍ في بدايةِ سهرةٍ ما ، الأمواجُ لا تكاد تظهَر على وجهِ البحرِ الأزرق ، السماءُ صافيةٌ في تلكَ الأُمسية .
تحرك المركب بمنْ فيه ، بعض الوقت يمرُّ سريعاً ، صورٌ كثيرة أيضاً تعبر أمام عينيَّ ، حضرتْ حياتي فجأةً إلى ظهر السفينة ...
( لِمَ كل هذه الإطارات والسترات البرتقالية ؟ ) سألتُ رجلاً كان يجلس قريباً مني ، لمْ يرقْ له السؤال لكنّهُ أجابَ على مضضٍ : ( إنّها للنجاة في حال تعرضت السفينة لعاصفةٍ بحرية ، أيضاً هناك قوارب صغيرة ، ألاَ تعرفُ ذلك ... ) ... شعرتُ بالألم من جوابهِ الحاد ، تجرأ الخوفُ عليّ للوهلةِ الأولى منذ بداية الرحلة ، أثارني منظرُ امرأةٍ كانت تقبعُ وحيدةً في زاوية ، لعلّها تجاوزتْ الخمسينَ من عمرها ، لكنّها كانت جميلة ، مُثيرة ، اعتلى الشحوبُ وجهها ، فكرتُ كثيراً : ( هل هو خوفها من ركوب البحر , أم أنَّ هناك أشياء أخرى ) ... اقتربتُ منها أكثر ، لم يكن معها أحداً ، أظنُّ بأنّها كانت تبحث عن صديق رحلةْ : ( كيفَ حالك يا سيدتي ، أراكِ خائفةً ) ... لم تتنظرْ كثيراً كي تردّ على سؤالي ( لا ... لا ... لستُ بخائفة ، فقد سبقَ وسافرتُ عدّة مراتٍ على متنِ السفينة ) ... دنوتُ منها حتى أصبحنا وكأننا رفيقين : ( لكنّكِ تبدينَ شاحبةً جداً ... أعتذرُ منكِ من هذا السؤال ) ، أطلقتْ المرأةُ تنهيدةً طويلة جداً ، نظرتْ إلى السماء ، تلعثمت قليلاً ، ثَغرُها الجميلُ تحركَ مرّةً أخرى : ( إنني مصابة بمرض الـ .... وأنا مسافرة للعلاج أيُّها الشاب ) .
ساد الصمت علينا ، لم أحرْ جواباً , أو سؤالاً غير ذلك ، لقد صُعِقتُ بالخبر : ( كيف للمرضِ أن يتجرأ على أنثى كهذه ) حدثتُ نفسي , ثم ابتعدتُ قليلاً عنها ...
بدأت خيوط الفجر تنطلقُ من تحتِ الماء ، لحظات فقط وكانت الشمس تَلِدُ منْ رحم البحرِ في مشهدٍ لم أرهُ من قبل ، التقطتُ عدّة صورٍ للمشهد الذي رُبّما لن أراهُ مرّة ثانيةْ ، الركابُ يتحاملون على أنفسهم ، بعضهم خرجَ إلى ظهرِ السفينة ، وبعضهم الآخرَ كان يتناولُ ( سندويشات ) الصباح ...
فجأةً ترنّح المركبُ كراقصةٍ في آخر سهرتها ، أمسكتُ بخشبةٍ بالقربِ مني ، ظهرتْ أنيابُ الأمواج , كانت أكثرَ ارتفاعاً ، الشمسُ بدأتْ بالاختفاء , أو بالانكفاء ، تغلغلَ الخوفُ إلى قلبي : ( ما الذي يحدث ، لماذا السفينة تترنّح يُمنةً ويُسرة ... ) , سألتُ أحدهم ... : ( إنّها الأمواج العالية , ألاّ تراها ... ربما هناكَ عاصفة ما تلوحُ في الأفق ، أو رُبّما القُبطانُ لا يملكُ خِبرة مواجهة لهوَ الأمواج ) ... كانت كلماته تصبُّ في أُذنيَّ كما يُصَبُّ الزيتُ على النار ، توجهتُ إلى تلك المرأة ، كانت أكثرَ اصفراراً ، شعرها الذي كان مُصفّفاً بعنايةٍ يوم أمس أصبحَ يعتلي رأسها على راحته ، تناولتْ بعض الحبوب قبل أن تنظرَ إلي : ( كيف حالك اليوم ، هل أنتَ بخير !!! ) ... ( نعم يا سيدتي أنا بخير ، لكني خائف من هذا الموج ) .
أصابتها كلماتي ببعض الوجع الإضافي ، لكنّها آثَرتْ عدم الاكتراث : ( لا تخفْ ، فهي حالة طبيعية في رحلات البحر ) , ( لكني سمعتُ أحدهم يقولُ بأنّ القُبطان لا يملكُ الخبرة الكافية ، هل استلمَ السفينة بالواسطة ) ... ابتسمتْ المرأة من كلماتي ، كانت ساحرة جداً مع تلك الابتسامة ، وضحكتُ أنا أيضاً ... قلتُ ليتني ألتقي بها هناك على الضفة الأخرى من البحر ...
في تلك المعمعة اللاعتيادية ساد ضجيجٌ ما ، الرَكْبُ البحري يتحركُ في اتجاهاتٍ مختلفة ، تذكرتُ أسراب الفراشات في بدايات آذار من كل عام , فهي تتناثر على هواها , الصراخ يعلو شيئاً فشيئاً : ( يا إلهي ما الذي يحدث ، إنني أجهلُ السباحة ) ، السفينة تميلُ على جنبها الأيمن ، صوتُ القُبطان يرتفعُ مُطالباً الركاب بارتداء سترات النجاة , والنزول إلى القوارب الصغيرة ، اندفعتُ مع المُتدافعين ، لكني وصلتُ متأخراً ، فلا سترةً لي ، ولا مكان في زوارق النجاة ، لمعتْ في ذاكرتي نصيحة كنتُ سمعتها منذ أكثر من عشرين سنة من أحد العجائز : ( اذا كنت في الماء فحاول أن يكون معكَ قطعة خشبية ، فهي تمنعكَ من الغرق , وتساعدك على البقاء على وجه الماء ... ) , لم أُفَكِرَ كثيراً ، أصلاً لم يكن هناك وقت للتفكير ، أمسكتُ بخشبةٍ من جانب السفينة ، خَلعتُها من مكانها ، حين أصبحتْ بين يديّ كان جسدي قدْ لامسَ الماء ، تشبثتُ بالخشبةِ بكل ما أوتيتُ من قوة ، فهي الأمل اليتيم للبقاء على قيد الحياة , الأمواج كانت تحجبُ الرؤيا ، لا أحد يهتمُ للآخرين ، الوقتُ يمرُّ مُتثاقلاً ، كما سلحفاة هرمة , العاصفة تبدأ بالهبوطِ كطائرةٍ وصلتْ إلى مدرج المطار ...
لم أدر ماذا فعلتُ ، بل وماذا حصل خلال الوقت الذي مضى ، كل ما أعرفهُ بأنني لمْ أدعْ الخشبة تفلِتُ من قبضة يدي ، رُبّما أصابني الإنهاك , الانهيار ، أو أي شيء آخر ، بكل تأكيدٍ لستُ أعلم .
وجدتُ نفسي مرميّاً على رمال الشاطئ وحيداً ، أغمضتُ عينيَّ ، كنتُ أبكي ، أذكرُ ذلك تماماً , تحسستُ جسدي بأصابعي التي كادت أن تتوقف عن العمل : ( ما زلتُ حيّاً , نعم فأنا أرى كل ما حولي ) ...
في اليوم التالي اشتريتُ جريدةً من أولِ بائع صُحفٍ صادفتهُ في الطريق ، كان عنوانها الرئيسي : ( السفينة جهينة تغرقُ مع طاقمها ، ليس هناك سوى راكب واحدٍ مفقود ) ... قرأتُ وأنا أذرفُ دموعي ( من هو هذا الشخص ذو الحظ السيء ) ، لمْ أُتممَ عبارتي حتى كانت يد ناعمة تلتفُّ حول عنقي ، نظرتُ إلى الخلف , فإذا بالمرأة الجميلة المريضة هناك : ( وأنا أيضاً أيُّها الشاب ، لستَ المفقود الوحيد ) ... احتضنتُها بقوةٍ غريبة , نسيتُ في تلك اللحظة كل العادات المزيفة التي تعلمتها في صغري ، بكاؤنا نحنُ الاثنان كان يسافرُ على متنِ سفينةٍ أخرى ...
_____
وليد.ع.العايش
18/6/2019م
No comments:
Post a Comment