خاطرة من وجع الخاصرة:
مرثية بوزغيبة/ صالح هشام
إلى روح فقيد الإبداع الأدبي المرحوم محمد البحتري٠
نم صديقي، نم استاذي قرير العين، أنعم ببرودة تربة قبرك، وسكينة لحدك، وتوسد راحة راحتك الأبدية، وأخبرك – أستاذي-:أن بوزغيبة تلك النبتة التي جعلت منها أيقونة عشقك، ما تزال على العهد باقية، لم يتغير في وجودها شيء، ما تزال- كما تركتها- تعيش الغربة والاغتراب في حقول وطن عشت فيه غريبا، تحمل همك وهموم من يعيشون في صمت من أبناء جلدتك، وطن لفظك علكة بلا طعم ولا رائحة٠
ما تزال بوزغيبة - كما تركتها- تمارس التغريبة القسرية في حقول الآخرين، فماء الأوطان مالح، يدمر فيها النضارة وكل معالم الحياة٠
حملت أستاذي همك وهم بوزغيبة، وهم الطبقات الهشة المهمشة، المغبونة ، المأزومة، في أوطاننا المهمومة من البحر إلى البحر، ما تزال بوزغيبة تعيش غربتها بين النباتات وسيف الفلاحين مسلط عليها، يغتصبون فيها كل أسباب الحياة بسمومهم القاتلة، فهي لا تقل عنك أهمية٠ ماتزال تعيش الغربة كغربتك بفكرك وأفكارك، في أرض غير أرض الفكر والأدب، وفي زمن تستهويه من قرع الدفوف الضروب٠
وكنت محظوظا سيدي، لأنك لم تكن سقراط أثينا، لم تجبر على تجرع السم إلى آخر ما علق بقاع الكأس٠ لكن موتك غريبا بين أهلك وذويك من أصحاب الفكر أكثر مفعولا من سم سقراط٠ ما سمعوك يوما، فعشت بعيدا عن الأضواء، لأنك لا تعرف هز الردف، أو الرقص على القعدة، فقط تعرف من الفكر والآداب الضروب، ولم تغريك أضواؤهم الباهتة على المنصات، ولم تهتم بملء الجيوب، لم يهمك من دنياك غير قارئ مقهور مغبون يحلق بلا أجنحة في عالم أحلامك، فيحلم حلمك، لأنه يجد فيك المنقد من ثقل عالم مثخن بالجراح، لأنك تمده بمجداف الأمل، فيبحر نحو هذا الأمل المفقود الذي لا يخلو من ألم، لكنه رغم ذلك ينتشي بأفكارك، وأنت تبسط له أوراقك بساط ريح يقاوم الريح، فتلفه بوريقات نبتة بوزغيبة – معشوقتك- برنوسا حريريا، ربما لأنه هو أيضا يقاسمك غربتك كما يقاسم نبتة بوزغيبة غربتها في الحقول بين النباتات الضارة٠٠٠نباتات ضارة تمنع نضج ًالثمار، كما يدمرون الفكر والأفكار٠ فربما تساويتما في الغربة سيدي، لذلك عشقتها عشقا صوفيا مجنونا فكانت لك على العهد باقية.
أبشر أستاذي، سأخبرك بحال بوزغيبة ، فهي ما تزال- على حالها- تقاوم من أجل الوجود، لكن في معركة غير متكافئة، فكثرة النباتات الضارة تخنق فيها الأنفاس وتصادر وجودها، لتتفلها الحقول المغتصبة بلا سيقان ولا أوراق، ما تزال تقاوم كحلزون بلا صدفة يصارع حرارة رمال متحركة في صحراء قاحلة٠
لم تسطع قسوة الزمن أن تغير فيها شيئا، فهي- كما تركتها- دوما في شبع مؤقت وجوع دائم٠ تعيش الاخضرار حينا، والاصفرار أحيانا كثيرة٠
ما تزال نبتتك أستاذي، بشجاعة تمارس لعبة الصراع من أجل البقاء، بين موت وحياة٠ ما تزال بوزغيبة سيدي- كما تركتها - تقتات عليها أفران طغاة العصر واللصوص، فتذبل، ييبس عودها، لكنها تقاوم ريح الريح في عناد الجبابرة، فتعود للحياة من جديد، فليس في جعبتها ما ستخسره، فقد تكسرت المزهريات منذ زمن بعيد، هذا حال معشوقتك بوزغيبة منذ تركتها ذات رحيل مفاجئ٠ فأنت لم تخترها معشوقة لك عشوائيا، وإنما كان لعشقك لها أسباب، فربما رأيت فيها ما لا يمكن أن نراه- نحن بسطاء التفكير، فأنت الفيلسوف لولبي الالتفاتة، ترى الأمور بعين ثالثة٠ فربما نراه نبتة عادية تجتاح الحقول مع إطلالة كل ربيع، وتراها أنت سيدي، كائنا مقهورا محقورا، يعيش حياة (الذبانة في البطانة)، كائنا يعيش على فتات حقير تجود به عليه عروق أعشاب ضارة، تمكنت جذورها من الأرض تمكن الحزام من الخصر٠ ومن يدري؟ فأنت لم تفصح عن نظرتك الفلسفية لهذه النبتة، فقد يسخر منك فقراء التفكير، ربما تراها ذرة في بحر من الكائنات التي تعيش كديدان وطفيليات في جثث متحللة٠
أخبرك سيدي، أن دار لقمان ما تزال على حالها، منذ تركتها ورحلت وهي من السئ إلى الأسوء تسير٠ شئ واحد تغير منذ رحيلك سيدي، شمس باردة كالموت، متعرقة كالمحموم،كل يوم تطلع، ولم تخلف وعدها يوما، وقمر خجول -بخجل- يقاوم غيوم الليل٠ فأنت تعرف سيدي، أنه ساهر-أبد الدهر – بعين لا تنام، لذلك تخجله تصرفات كحل الرأس في كل ليلة عندما يجن الليل، فيسجل ويدون جرائم هوام الليل، دون أن يظهر عليه امتعاض، رغم أن هالته تلوح باهتة اللون كعروس متخلى عنها ليلة زفافها٠
شئ واحد تغير سيدي، الليل احلولك هذه الأيام فأصبح أكثر حلكة من ذي قبل، تحت جنحه تتفشى جرائم الكبار والصغار، و في ظله وظلال كائناته، يكثر قنص البرئ والمذنب، تحت جنحه لم نعد قادرين على تمييز طباع البشر وطبائع الأشياء٠
كل شيء أصبح مزيفا و بلا قيمة سيدي، ويدعو إلى الشفقة، وحدها بوزغيبة ما تزال على العهد، وستظل كذلك، وإن تغيرت ملامح البشر سيدي، ولم تعد الابتسامة تزور الشفاه إلا لماما، وكيف لها أن تنفرج عن ابتسامة ولو كانت صفراء؟ وسكاكين الجوع تمزق المصارين، وتعبث بالمعدات الفارغة، لذلك أصبحنا سيدي، نرى الابتسامة المزيفة تقتلع من الأعماق كما تقتلع حزم الأشواك من البلعوم ، وكأنها أشجار الزقوم تسحب من الصدور سحبا٠ تغيرت الطباع والطبائع سيدي، فالضمير ضمر وأصبح باردا كالصقيع، وأنانية النفوس المريضة أحرقت البلاد والعباد فعم الفساد، وساد العبث، وغاب الوازع الأخلاقي بين الناس، فتدنى مستوى السلوك البشر، فتمزقت السراويل من الورك إلى الركبة باسم العصرنة والحداثة٠ فتمردت الأحزمة على الأرداف، وبلا حياء، هبطت السراويل، فتعرت العورات، وللعيان ظهرت السوءات، وهجرت الجوامع والصوامع، وانفضت من حولنا تلك المجامع٠
كل شئ فقد ألوانه و مذاقه سيدي، وانخرمت العلاقة بين أفراد الأسرة، وأصبح الطفل غريبا عن أبيه، والزوجة غريبة عن زوجها، فساد البيوت صمت الصمت٠ وعاش الناس تحت رحمة الأزرار الكهربائية، في عوالمهم الافتراضية، فكلما تطورت التكنولوجيا سيدي، ازدادت شساعة المسافة بين الناس، ولم تبق الأجواء كما كنت تعرفها، انتشاء بمعزوفات صراصير الليل، رفقة الشعر والشعراء، والتمتع بجمال ضفائر القمر البيضاء، كتلك القلوب التي كانت فعلا بيضاء، قبل أن تعيث فيها الماديات فسادا، فيحل الحقد والكراهية محل الحب والتآخي ، والقسوة محل الرحمة ، رحل جمال أيام الزمن الجميل برحيلك سيدي، لكن لاتحزن وأنت تتوسد قبضة النسيان في لحدك، فزمنك الجميل ما يزال قابعا بين سطور رواياتك وإبداعاتك٠ من حين لآخر تجذبنا سطور، أو فقرات، أو فصول، مما تركت وأنت تمارس شغبك السردي والفلسفي٠ فننجذب إليك كحشرات عطشى للمزيد من النور٠
وادي زم ما تزال رأس الهم سيدي، ما تزال تمارس لعبة الموت البطئ، إقصاء وتهميشا، وكالمحموم تحترق من الداخل٠ كم كنت أغبطك على عشقك لهذه المدينة الشهيدة، وأنت تخصص لها رواية كاملة لا فصلا من فصولها ( شجرة النجد )٠٠٠ فوادي زم ثم رأس الهم، ومن رأس همها، تولدت رؤوس مهمومة لا تعد ولا تحصى، لتنتشي – قسرا- بملوحة هذا الزمن الأرعن، أفلت عادات رائعة جميلة -كنت تعرفها في هذه المدينة- أفول القمر بين الغيوم، وظهرت ظواهر خطيرة كالنباتات الفطرية، نتيجة التهميش والإقصاء، وعدم تحمل المسؤولين مسؤولياتهم، فضاعت جيوش من الشباب العاطل في عالم النصب والاحتيال والابتزاز الالكتروني ٠ وأنت تعرف سيدي، أن الفقر والتهميش يجعل من الحمل ذئبا شرسا مستعدا للانقضاض في أية لحظة٠
اعذرني سيدي، لم أرد أن أعكر عليك سكونك، وسكينتك في لحدك، وإنما أردت أن أشارك نبتة بزغيبة همومها وحزنها عليك، وأبلغك شوقها واشتياقها إليك ، فقد ألفتها وألفتك وتآلفتما معا، فلك تحيات بوزغيبة سيدي، أما أنا فلا يسعني إلا أن أدعو لك بالرحمة٠ رحمك الله أستاذي سي محمد البحتري، شاء القدر أن لا ننعم برفقتك طويلا٠٠٠ أهديتني روايتك الكبيرة ( شجرة النجد ) وانطفأت الشمعة، وقوضت خيمك تبغي الرحيل والراحة الأبدية في غفوة منا، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته٠
No comments:
Post a Comment