Saturday, February 22, 2020

وطن ترعاه السماء ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / جهاد مقلد

1
القصة الأولى في مجموعتي القصصية((عباءة قوس قزح))
اصدار ديوان العرب للنشر والتوزيع جمهورية مصر العربية
       
        وطن ترعاه السماء
لم يكد ينتصف ذلك اليوم الرهيب، حتى كان أزيز القذائف يثير الرعب في النفوس، خاصة عند مرورها من فوق بعض البيوت، فترسل الموت والدمار على من ساء حظهم، ووقعت على بيوتهم  وتترك أثارها المدمرة، وتبث الخوف والموت في الأماكان التي تسقط فيها، وتجعل الرعب يسيطرعلى قلوب الجميع، في الشوارع وفي المحال التجارية وفي المنازل.
 قذائف عمياء تتساقط عشوائياً في كل مكان داخل المدينة... مدينة كانت آمنة قبل قليل يحلم الجميع بما يبني لهم السعادة، هذا يريد تزويج ولده وذاك يبحث عن المستقبل في سفر يحلم به، وطالب ينتظر نتيجته لكن الجميع لم تصل الأفكاربهم إلى أن تصل الأمور إلى حد الدمار والموت في بلد كثر الطامعين في سرقة أمنه واستقراره،
ومن لعب الشيطان الأكبر بعقولهم، وقدم لهم أحلاماً مستحيلة التحقيق، إلا أن العقول تعمل بما حوت فمنها المتزنة التي يهمها أمن بلدها ومنها من لا يهمه سوى ما يوضع في جيبه ومنها من تسيطر على تفكيره غايات شحصية وحب الإنتقام، لكن الإرهاب لا يرحم فالقذائف لاتعرف هوياتهم لتفرق بينهم وبين الآخرين...
وهنا في هذه الغرفة...
صراخ الأطفال يملأ المكان، والرعب يخنق ساكنيها في أقبية لِمن تيسر لهم ملجأً وهم قلة... يخنق العقول، ويحرق الأنفاس لمن سلم أمره لقدره، ولا ملجأ لأحد سوى الدعاء والصبر
لم تجرؤالأم أن تبدي ضعفها، أوما يعتري طبيعتها الإنثوية من ضعف وهلع أمام صغيريها، ها هما يصرخان ويستنجدان بأمهما التي لن تستطع أن تقدم لهم ا سوى حُضّنها، وحَضنَهما للدفاع عنهما.
فبعد كل صفيرٍيعقبه انفجار يحدث دوياً هائلاً يهتزله البيت، وترتج له الأبنية المجاورة.
 أما البناء الذي تصيبه قذائف الغدر فيسجد بنيانه خاضعاً، وشاكياً لربه حياة ساكنيه
 هناك جلست أنثى لايهمها مصيرها ولا خوفها على حياتها، بل تدعو الله دوماً أن تكون فداء لمن تحتضن أطفالها... وحياة زوجها الواقف كغيره من المناضلين على جبهة القتال يدافع عن بلده... الجندي المكلف بالبحث عن مصدر القذائف ومطلقيها!
أخيراً توقفت القذائف... عاد الزوج ليطّمئن عن أسرته، بعد أن استطاع ورفاقه القبض على بعض الجناة وفرار البعض... اللحظة توقفت أعمال الغدر.!
قُرع الباب... لم تكن الأم بحاجة لمن يقول لها أن زوجها الطارق، لهفة عقلها وإحساسها الداخلي يخفق في صدرها ويشيرلها من هو القادم.
 تحول وجهها المرعوب إلى صفحة كتاب تُقرأ سطوره بلمسات زوجها الحانية وقبلته الهامسة بمكنون صدره... تحولت دقات قلبها المتسارعة إلى نغمات مفرحة... وإن كانت لم تطمئن لهذا الهدوء... فقلب الأم لا يخطئ
 ولم ينقطع إحساسها بالخوف، كأن هناك شيء ما في عالم الغيب يحدثها بشيء ما سيقع ولاتدري كنهه.
جلست هي وولديها وزوجها يتناولون الطعام، وتحول الخوف عند الطفلين الآن إلى نزاع على من ستحضنه أمه.
والتصقت هي بزوجها لتستشعر الأمان أكثر.
دخلت مطبخها، ولكن صفيرالقذيفة لم يستغرق سوى عشرالثانية عندما زعق صوتها بأذنيها! لاتعلم المسكينة متى استفاقت ولا أين هي، نظرت حولها وهي تتلوى من الألم، كل شيء حولها
تنظرالآن من نافذة المشفى إلى البعيد وتسستعيد ذكريات ثمان سنوات من عمرأزمة طالت البلد وكانت أسرتها إحدى ضحاياها... فوضى أرادوها للبلد... قتلت البشر ودمرت الحجر.. تذكرت المسكينة كيف فتحت عينيها أول مرة في المشفى، بعدأن قدرالله لها النجاة.
 حتى اليوم لم تعد تجد دموعاً تذرفها. جفت مآقيها، وندر الدمع وأصبح البكاء غصة والحزن تجاعيد... لم تنس مصيبتها بأغلى ماعندها تنظر بأسى لكل جريح قربها يشاركها المصيبة.
يدخل الزوار فتبتسم لكل طفل يرافقهم... تقارن... هذا يشبه ابني وتلك كأنها ابنتي وذاك أطول من زوجي...
 تناجي نفسها وهي تقارن بين سعادة زالت ومأساة أبادت أسرتها بالكامل، تصورلها مخيلتها ماذا لو كانوا أحياء؟ كيف سيكونون الآن؟ تسأل جارتها في السرير المجاوروتقول:
_ أتردين كم مر علي هنا؟
_ لاأعلم ولكنني قبل سنين جئت اتعالج من إصابتي أول مرة فكنتي فاقدة الوعي ولاتشعرين بما حولك
نظرت إلى السرير الأبعد نادتها: تسأل السؤال نفسه، تبسمت الأولى...
_ لن ترد عليك لقد فقدت ذاكرتها
_ وهل للزمن قيمة الآن، لابأس عندما أعود إلى بيتي سأسأل الجيران... وأجهشت بالبكاء وقالت: نعم إن كان هناك جيران باقون؟!
تذكرت كل شيء... ولديها الشهيدين... زوجها كبير الشهداء...فتحت شبرها ونادت طفلاً... وضعت خنصرشبرها على رأسه وقالت:
كيف أصبح ولدي اليوم لوأنه مازال حياً؟ غالبها بكاء مرّ... وقبل أن تنتهي الموجة أمسكت بفستان أخت الطفل التي تقف مشدوهةً أمام ما تفعله تلك المرأة...
_ وبصوت متقطع يحرق القلب... من أين اشتريتيه إنه نفس فستان ابنتي
وهكذا آلام نفسية، ومعاناة لاتنسى، فكل شيء يذكرها بأسرتها التي تركت لهاالدنيا،
تناجي ربهامتسائلة:
لماذا ياربي أبقيت روحي وأخذت أرواحهم؟ أليس الأولى أن أفديهم أوأكون معهم؟ أويكونوا معي...
لايوجد حولها في الأًسِّرة سوى أرامل وأطفال وسيدات فقدن أزواجهن، أو أولادهن أوكلاهما كما حالها الآن!
جاء اليوم الأخير على حربها الضُرُوس مع اصابتها، وجاء من يبشرها بالخروج... وعادت الأنثى إلى منزلها عودة المهزوم نفسياً وجسدياً ...
لا أسرة بقيت لها... ولا تستطيع أن تحضن أوتحتضن! عادت جسداً بلا روح
 دخلت الغرفة التي خرجت منها محمولة قبل سنوات... نظرت إلى الأرض حيث تقطعت أوصالها... نظرت إلى فتحة السقف التي صنعتها القذيفة...  
ترنحت... قبّلت الأرض... وقَابلت خالقها...قضت الأسرة بالكامل شهداء للوطن،
وبقي وطنٌ ترعاه السماء...

No comments:

Post a Comment