Monday, July 30, 2018

المرآة ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ : محمد عطوي

المرآة
قصة واقعية

غالبا ما كان يصطادني الزميل الأستاذ(...)في مقهى البريد بمدينة رمضان جمال لأمر أصابه من شهور، خجل من طرحه على الطبيب.
كان الأستاذ(...)شابا في تمام الفتوة و القوة و النشاط: أسمر البشرة، مربوع القد، لا يرى فيه عيب من قريب أو بعيد؛عيب خَلقيّ أو خُلقيّ.
يجلس جنبي في المقهى ثم يسألني:كيف حالك يا"قرنفل"؟
لم أكن أتحرج من هذا اللقب لا سيما أنه يتضوع فتشم منه رائحة طيبة.
أرد:لله الحمد و المنة.
أحس بعدها-بخاصة في البداية-أنه يتحرج من مبادرتي في موضوعه الخاص، فأحاول إزالة هذا الحرج واللبس بسلوك معين لا يشعر به.
يبادرني بالقول تخفيا عن الناظرين:أ لا ترى في وجهي اعوجاجا أو تشوها؟
أنظر في وجهه فلا أرى شيئا غريبا طرأ عليه منذ عهدته، فأقول له في ثقة و اطمئنان:و الله لا أرى أي شيءطرأ على وجهك كله، فماذا ترى أنت أو ماذا تحس؟
يجيبني:إني أحس بوجهي مائلا و أحس بهذه الخطوط غير طبيعية غائرة في جبهتي تقلقني و تؤرقني كثيرا و بخاصة أن بعض الزملاء أكدوا لي ذلك.
تعقد الموضوع لدي قليلا!و علمت أن بعض الناس يجعلون من الحبة قبة،ولم يكن في الموضوع حبة أصلا.
قلت ل(...)لاتسمع من اليوم لأحد فإن معظم الناس يزيدون الطين بلة!و أنت تتق بي من سنين فدع الموضوع بيننا.
وافق على الأمر، ثم انصرفنا على لقاء جديد.
من طبعي ألا يمر علي مثل هذا الأمر دون معرفة حقيقته.
بت الليلة أبحث في الذاكرة و أنبش في أرشيف المعرفة.
تقدم الليل بي قليلا، فقفز إلى الشعور ما قرأته يوما:أن امرأة مسنة تعيش مع ابنها الصغير كانت قبل النوم تنزع طقم أسنانها ثم تضعه في إناء به ماء في أحد أدراج غرفة الحمام.
ذات صباح نهضت البنت الصغيرة و  وقصدت الحمام لتنظف أسنانها بالفرشاة و المعجون.
جذبت الدرج و سرعان ما صاحت:أسنان تريد أن تأكلني!
أسرعت إلى الشرفة كأنما تريد أن تلقي بنفسها!
لحسن الحظ تداركت الأسرة هذه المفاجعة!
نتيجة هذه الحادثة تومئ لي أن شيئا مشابها حدث للأستاذ(...)تحول إلى عقدة نفسية لا مبرر لها على المستوى العضوي أبدا!
رحت أنقب في الذاكرة و أستحضر ما في اللاشعور لعلي أظفر بعلاقة مشابهة تعينني على تفسير عقدة الأستاذ الزميل.
لست أدري كيف عدت إلى أيام الدراسة في ثانوية الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي بسكيكدة.
زميلي "كمال"في ذلكم الوقت احتال علي و نصب لي فخا أوقعني فيه!
هبطنا ذات مساء أو صباح -لا أذكر- في شارع  محمد العربي بن مهيدي رحمه الله، على الجهة اليمنى بين البنك الوطني و صيدلية-عبدي-
هناك مرآة في إطار خشبي.
قال لي(كمال) ساعتها: هيا نمشط شعرنا ثم نواصل جولتنا.
بدأ هو فعدل شعره بيده و بقي ينتظرني.
تقدمت للمرآة و مسحت بيمناي على شعري الطويل قليلا، فإذا هي المفاجعة!
شعري الذي كان ممشوطا من اليمين إلى اليسار صار ممشوطا إلى اليمين!
لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم!   تشكلت في داخلي ساعتها حركة نفسية كادت  تزلزلني لولا قوتي الشخصية التي اكتسبتها من والدي رحمه الله، و من معلميَّ الكرام.
المرآة إذن هي عقدة الأستاذ(...)!
سألته بعد هذه الحادثة:يبدو لي يا  (...)أنك تكثر من التردد على المرآة؟
لم ينكر ذلك خصوصا أنه كان يبالغ في تحسين صورته.
في اليوم الموالي أخذت في محفظتي مرآتين: إحداهما عادية جديدة والأخرى قديمة قليلا، جعلت فيها شقًّا من شمالها لجنوبا.
التقينا كالعادة في مقهى البريد وهي الأقدم في القرية.
طلبت قهوتين.
بدأنا نرتشف و ربما كنا أشعلنا سيجارتين.
لما أحسست بالزميل أكثر هدوءا هذه المرة قلت له: اليوم تنتهي مشكلك بإذن الله إلى الأبد.
غطت وجهه حينئذ مسحة من البشر و الإشراق ازددت معها حبورا و ثقة.
قلت له:
أ تسمح لي أن ننتحي زاوية من المقهى بعيدا عن الأنظار؟
أشار -نعم- إلى زاوية ليس بها إلا طاولة و كرسيان.
انتقلنا إلى المكان و واصلنا ارتشاف البن.
اجتذبت من المحفظة المرآة السليمة الجديدة و قلت له:يا (...): انظر جيدا في هذه المرآة ثم أخبرني بالنتيجة.
نظر فيها مليا،ثم قلبها رأسا على عقب و نظر فيها جيدا،ثم نظر فيها بشكل عرضي، ثم نظر فيها من جانبها العرضي الآخر، و لم ألحظ عليه أي تغير أو استياء.
وضع المرآة على الطاولة وقال: الحمد لله و سبحان الله و لا حول ولا قوة إلا بالله!
أردفت بالقول:الحمد لله رب العالمين.
ثم اجتذبت له المرآة الثانية و طلبت منه أن ينظر فيها.
أخذها بين يديه و قربها من وجهه  لكنه سرعان ما أبعدها عنه ثم أعاد رؤية وجهه فيها وسرعان ما خبطها بقوة على الأرض!ثم قال على الفور: هذه مصيبتي!
قلت له: هل وقع لك في الماضي ما وقع  الآن؟
سكت قليلا ثم قال: نعم و لم يشرح لي التفاصيل.
عقبت قائلا: لقد اكتسبت هذه الفكرة المخطئة من تلك المرآة اللعينة التي تحولت بضعف النفس المقاوِمة إلى عقدة نفسية ربما زادها الناس نموا وتعقيدا.
قال في امتعاض و مضض:لعنة الله على كثير من أهل هذا الزمان!ثم انصرفنا بعد أن سبقني إلى تسديد ثمن القهوتين.
مرت عقود من الزمن العربي المهتز فابتليت أنا بمرض أقعدني الفراش عقدا كاملا من الزمن!
صديقي و أخي و حلاقي الخاص: "عبد الحفيظ "و هو يحلق ذقني قال يحادثني كعادته عن الدنيا و الناس متبرما منهما: "تعرف يا عطوي أني التقيت اليوم صدفة ب(و ذكر لي اسم ولقلب من كنت بالأمس معينه على الشفاء من عقدة نفسية كانت من الممكن أن تعصف بحياته)!
قال: قلت له:أين صاحبك و زميلك عطوي الذي كنت كظله هل زرته و لو مرة واحدة؟
أجابني بعذر أقبح من ذنب: "ما عنديش حق السَّاشِية"!
انتهت.
-الساشية:كيس بلاستيكي يضع الناس فيه ما خف من الفواكه و الخضر.
مارس2012.

No comments:

Post a Comment