الوباء القاتل.........الجزء الاخير(2)
في الجزء الأول... تركنا جان يخرج من بين الجثث بعد ان أُلقي بينهم... إلّا أن الله كتب له النجاة، ويبدو أن الروح لم تفارقه أو أنها بقدرة قادر عادت إليه.
قلنا إنه استعاد وعيه، بعد أن خفَّت موجة الرعب التي لازمته، والسبب رؤيته للأعداد الكبيرة من الموتى التي شاهدها مسجاة حوله، وما رآه خلال الأيام السابقة، عندما كانت تنضح العربات بالجثث تباعاً أمام عينيه.
جميع ما مر به جعله يعتاد على المناظر البشعة التي كانت حوله، وهذا ما خفف من وقع حالة الرعب على نفسه.
بدل ثياب البيت التي كان يلبسها، وجيء يرتديها إلى هذا المكان... بدلها بلباس رسمي متوفر بالمئات داخل تلك الدهاليز، ممن جيء بأصحابها أمواتاً
ومن المعروف عند بعض الديانات في الغرب، أنهم يدفنون موتاهم ضمن قاعات كبيرة تتميز بفتحات جدارية، على جوانب تلك القاعات والدهاليز الموصلة إليها وهي طريقة للدفن عند بعض الشرائع غير الإسلامية... أما اليوم في هذه المحنة، أصبحوا يضعونهم عشوائيا على أرض الدهاليز ودون توابيت بعد أن امتلأت جميع الأماكن الفردية المخصصة للمتوفين.
نعود إلى جان الذي لم يمت فعلياً... ما أن هدأ روعه، حتى بدل ثيابه بما توفر له... مما سَهُل عليه نزعه عن صاحبه، ثم خرج من مكانه وجلس قليلاً في حديقة المقبرة قرب الباب الرئيس ليلتقط أنفاسه... بعدها انطلق خارجها إلى حيث الطريق... طريق الحياة الجديد.
تنفس الصعداء، وخاصة أنه أصبح الآن حياً طليقاً... اتجه نحو إحدى مخارج المدينه وهو يسعى جاهداً لمغادرتها... قبيل غروب الشمس، لكنه توقف للحظات قليلة يفكر بعد أن خطرت زوجته في باله... أراد العودة إلى البيت ليطمئن عليها، لكنه عدل عن الفكرة خوفاً من أن يسقط ضحية الوباء مرة أخرى وقال في نفسه:
_ لقد رأيت الأعراض عليها ومن المؤكد أنها توفيت! وبما أنني الآن محسوب على الأموات ومعهم... ربما أعود قريباً فإن الوباء قد بدأ ينحسر...إن كانت زوجتي لوسي حية... سأرجع يوماً إليها وسأعرف ذلك ولكن بطريقة مختلفة، وأعتقد على الأغلب أنها ماتت، وهذا ما أرجحه طالما دخل الوباء منزلنا وداخل غرفتنا بالذات، وأعلم أنها كانت في حالة سيئة قبل أن أفقد الوعي.
صرف النظر عن الفكرة على مبدأ( ياروح مابعدك روح) المهم انطلق جان سيراً على قدميه حتى خرج من المدينة متجها نحو قرية يعرفها من قبل، وهو منهك من الجوع و التعب، وفي الطريق عثر على حصان مسْرج بين أشجار الغابة التي يسير فيها، وبجانبه رجل مسجى على الأرض... اقترب منه ونظر إليه، لكنه خاف أن يلمسه في البداية، ثم تشجع وقال في نفسه:
_ من نجا من بين أكوام الموتى حوله لابد أنه لن يتأثر من واحد فقط، عندها هزه بعنف... اكتشف أنه ميت لاحراك فيه؛ فتأكد له أنه متوفى منذ عدة ساعات، وشعر بأن الجثة باردة... حار في أمره وهو يتساءل:
_ لوكان الله يريد موتي لما عفا عني ووصلت إلى هنا!
اقترب من الرجل فلاحظ وجود رجل آخر مسجى بسلاحه بعيد عنه أيضاً فقال:
_ يبدو أن الأقدار بدأت تساعدني اليوم... سأركب هذا الجواد وأكمل رحلتي... فتش جيوب الرجلين فوجد في جيوبهما أوراقاً شخصية وبعض النقود؛ أخذها وركب الجواد وتابع سيره... وما إن استوى عليه حتى وجد محفظة مموهة جيدا ومثبتة بسرج الجواد... فتحها فوجد داخلها مئات من الليرات الذهبية، ورزمة كبيرة من النقود الورقية، حيث كانت بعض الدول الأوربية تستعملها في ذلك الحين.
أخذ جان يفكر بالرجل، وما الذي جعله يموت قبل دخول المدينة... وعند بحثه داخل الحقيبة وجد كشوفات بنكية، فعلم أن تلك الأموال موجهة إلى أحد البنوك في المدينة التي تركها قبل قليل... قال في نفسه يحاول تصور السبب الذي قضى على الرجلين :
_ هذا يعني أن الرجل، إما أنه دخل المدينة فوجد الموت منتشراً فيها، ولم يجد من يستلم منه ما في جعبته... فعاد على عقبيه... ولكن لسوء حظه العاثر أصيب بعدوى شديدة مات على إثرها... أو أن المرض انتقل إليه مع الهواء وهو قادم إلى المدينة وقضى الوباء عليه قبل وصوله إليها.
كان هذا لحسن حظ جان الذي وجد الآن وسيلة تنقله حيث شاء، وكذلك عثر على ثروة تغنيه ودون مساءلة من أحد.
ساعدته تلك الأموال على إنشاء شركة متواضعة في المدينة الجديدة التي حلّ فيها.
ثم نجح في عمله، ومع أنه لم ينقطع عن التواصل مع مدينته، وكان يستطلع أنباء المدينة دائماً، ولكن ما لم يشجعه على العودة إليها، ما كان يصله من أنباء عن سوء تجارتها، وفشل شركاتها وإغلاق منشآتها، بسب النقص الشديد في سكانها، ورحيل أكثر الناجين منها بسبب الوباء الأسود.
مضت عدة سنوات على رحيله وغالبه الشوق إلى بلدته... عندها قرر جان العودة إلى مدينته الأصلية... لا لأن تجارته تراجعت هنا، بلّ نجحت نجاحاً منقطع النظير وأصبح يشار إليه بالبنان... لكن شوقه الدائم لموطنه، دفعه للعودة إلى مدينته.
ما إن وصل إليها حتى قرر الذهاب مباشرة ليرى ماذا حل بمنزله، وكان على يقين من أن زوجته لم تنجُ من الوباء القاتل حين ضرب المدينة قبل أعوام . كان يستعيد في ذاكرته دوماً زوجته وهي تصيح بعد ما شعرت بأعراض الوباء.
وكان قراره زيارة المدينة كفضول وحب استطلاع ليس أكثر... ركب جان إحدى العربات وانطلق نحوها وأفكاره تسابقه عما سيجد فيها... وفي قلبه بقايا ذكريات سوداء مؤلمة قاسية لما مربه من خوف ورعب!
أخيراً وصل جان إلى مسقط رأسه... لا جديد في شوارع بلدته، ما زالت كما تركها قبل سنوات، إنما أكثر متاجرها ما زالت مغلقة بسبب وفاة أصحابها وعدم وجود من يفتحها... فهناك أسر كاملة أخذها الوباء، ولم يترك منها أحداً.
اتجه نحو بيته... فكان كلما إقترب منه قلبه يدق شوقاً وخوفاً... وما أصابه بالدهشة سماعه لأصوات موسيقى صاخبة تصدر عنه! أصبح في حيرة... وقف قليلاً مستغربا ما يسمع ويتساءل عن السبب! قال يحادث نفسه:
_ ربما تحول البيت بعد وفاتي المزعومة ووفاة زوجتي إلى نادٍ للموسيقى أو أن أحداً ما احتله أو لأمر غيره؟! فالجميع يعلم بأنني في عداد الأموات، ومن المؤكد أن زوجتي لحقت بي كما يبدو لي، لأن الأملاك الخالية أصبحت مشاعاً لمن يريد استعمالها بسبب قلة السكان.
تابع جان سيره حتى وصل مدخل البيت؛ توقف أمام المدخل لحظات ووجد شخصاً يقف أمام الباب!
سأله عما يحدث داخل هذا البيت:
أجابه الرجل:
_ إن أهل هذا البيت يحيون حفلة موسيقية تنكرية اليوم احتفالاً بذكرى زواج صاحبه فقال:
_ من هم أصحابه؟
_ إنه السيد جيمس الذي كان موظفاً في شركة صاحب المنزل الأول السيد جان الذي جرفه الوباء مع من جرف، فوجدها فرصة ليستولى على البيت، ثم أردف... ولكن هذه المعلومات التقطتها من حديث المدعوين إلى هذه الحفلة التي تقيمها زوجته لوسي ... حاول أن يستوضح منه أكثر دون جدوى... برر جهله بأنه جديد هنا... عاد وسأله إن كان يسمح له بالدخول:
أجابه:
_ هي حفلة تنكرية تقام بشكل دوري بمناسبة ذكرى زواجهما، وتقام غيرها حفلات دورية كل يوم يتسلون بها في أحد البيوت المسكونة لقلة عدد سكان المدينة... اذهب وتنكر بأي زي غريب يعجبك وتفضل، لم يُطلب مني أن أمنع أحداً من الدخول.
ذهب وحجز في أحد الفنادق ثم تدبر أمر زي ملائم ثم عاد.
سمح له البواب بالدخول كما وعده... أخذ جان يصعد درجات بيته ودقات قلبه ترن بأذنيه، وهو يتذكر ماضيه هنا في هذا البيت، لكن تفكيره مشغول باسم لوسي الذي سمعه من الحارس، ويتساءل:
_ ترى هل هي زوجتي؟ هل ما زالت حية فعلاً؟ وهل هي لوسي نفسها؟ ومن هو جيمس هذا الذي استولى على منزلي وربما زوجتي أيضاً؟ ثم يعود إلى ماضيه ويتذكر الحب المتبادل الذي كان يربطه مع زوجته لوسي فيقول:
_ لا... لا، من المستحيل أن تعشق غيري! ربما كان تشابه اسماء فقط بين اسمها وزوجة هذا المحتل... دخل إلى الصالة الرئيسية التي رحَّلوه منها ذات يوم على إنه ميت!
كانت الصالة مزدحمة بعشرات المدعوين... لم يستطع أن يعرف أحداً منهم... الكل متنكر بأزياء وأقنعة غريبة، والموسيقى الصاخبة يرتج منها المكان، وحلبة الرقص حافلة بالراقصين والراقصات... أخذ يتفقد من يرى حوله من الناس، لاوجوه بادية ولاصوت يميز شخصية أحد... يغطي على أصواتهم ضجيج الآلات الموسيقية.
تجمد على كرسيه وهو يراقب الجميع، حتى دُعِي الجميع إلى الشراب والطعام... عندها نُزعت الأقنعة عن الوجوه وأنير المكان بمئات الشموع، واتضح له كل شيء!
قفز من مكانه وهو يرى القبلات الحميمة المتبادله بين لوسي نفسها التي كانت زوجته يوماً وأحد الحضور، وحركات الدلال والغنج المبالغ فيهما تفتعلها مع الرجل نفسه وعرف بأن هذا الذي اسمه جيمس هو زوجها الجديد، ضم جان قبضته واتجه نحوه يغلي دون أن يخلع قناعه، يريدأن يلكمه... لكنه تذكر ملامح الرجل الآن... إنه أحد الموظفين معه في الشركة التي كان يرأسها... ومع شدة غضبه وقهره عاد الهدوء إلى نفسه فجأة، وانسحب دون أن يشعر به أحد... دخل غرفة نومه السابقة... لم يجد شيئاً تبدل في الغرفة، كل شيء كما كان على أيامه، فقط التغير الوحيد هو استبدال صوره بصور الزوج الجديد التي حلت مكان صوره!
أخذ يفكر بما سيفعله الآن؟ وبدأت تلك الخواطر تراوده... كان أحياناً يجد لها العذر ويقول:
_ ما ذنبها لقد كتب عليها أن تبقى حية، ولم يأخذها الوباء في جملة من أخذ... وها أنا عدت إلى الحياة بعد أن كنت في عداد الهالكين، وما جرى كله جرى خارج إرادتنا... هل يجب عليها أن تموت لأجلي؟ إنها حياة... ليس عندها أولاد تترمل لأجلهم وتلام إن لم تفعل... ثم زميلي الموظف ما ذنبه أيضا وجد حسناء جميله أحبها ومنزلاً جيداً سكنه ورصيداً في البنك استولى عليه، وصاحب هذا كله مات وشبع موتاً... ولو كنت مكانه، أكون غبياً إن لم أفعل مثلهم.
لماذا أنتقم منه ومنها، وعلى ماذا؟ أنا سقطت علي ثروة! وهو سقطت عليه ثروة! ... خرجت من هنا وأنا في سجل الأموات، واليوم في عرف القانون والناس ربما أكون لصاً مثله، أنا سرقت جواداً وأموالاً يحملها رجل أمانة، وبعدها أصبحت من كبار رجال الأعمال، وهو فعل مثلي... لا لن انتقم أبداً... بل هي الحياة لمن يعرف كيف يعيشها... لكنه تردد كثيراً في تفكيره، وتحول فجأة للانتقام، قال لنفسه:
_ كيف سأترك هذا الرجل يتمتع بثروتي وبيتي وزوجتي؟ سأحرق هذا البيت على من فيه، نظر حوله على أضواء الشموع الباهتة... أين صورتي ... أين صورتنا معاً... بل أين عهود الغرام؟ ثم قال بصوت مسموع:
_ مهما أجرمت وأحرقت... لن يبحث عني أحد... فأنا بنظر القانون والناس، لا وجود لي في هذه الدنيا! أنا في هذا العالم ميت، ومحسوب على العالم الآخر... ثم عاد إليه الهدوء من جديد وتساءل:
_ وماذا سيفيدني الانتقام؟ وهل فيما لو تبدلت الأدوار بيننا وكنت مكانها؟ هل سأنتظر مجيء جان من العالم الآخر؟ أم أفعل غير ما فعلاه؟ إن من نجا من الوباء القاتل... لا يحق لأحد أن يحرمه ما وهبه الله... تناول قلم أحمر الشفاه وكتب على المرآة أمامه (من أنقذه الله ووهبه حياة جديدة، لا يحق لأحد أن يحرمه ما وهب)
وقع تحت العبارة... ( الميت الحي جان) ثم رحل دون أن يشعر به أحد وهو يقول:
_ أمامي حياة جديدة لأعشيها بطريقتي، ولأدعهم يعيشون حياتهم الجديدة بطريقتهم.
جهاد مقلد/ سوريا
No comments:
Post a Comment