وجهة نظر نقدية: ميلاد النص
 بقلم  صالح هشام / المغرب
       وتهمس شياطين وادي عبقر في أذنيك، يأتيك الإلهام مختالا من متاهات  لاشعورك، فتتلمس جدار ذاكرتك، تلتمس منه مدك بالزاد، فتضغط على الزناد، وتروح في نوبة شطحات متح واغتراف من ترسباتك، من ترسانتك المعرفية التي علقت كالعلق بذاكرتك -عبر الزمن-  فتنتقي من هذا الخزان المعرفي كل ما تستدعيه لحظات إبداعك، لأنك لم تبخل عليه بالسقيا من غيث القدماء والمحدثين، منذ أن وطئت  قدماك هذا الكوكب٠
      وقتئذ، يسقط الجنين في الرحم، ويبدأ رحلة التكوين، وأنت كطائر السنونو يهندس بيته قشة قشة بدقة  متناهية، وكلما شعرت به يناديك ويطلب السقيا، تسقيه من تلك الترسبات والتراكمات المعرفية،  فتمده تارة برمز أسطوري وأخرى تساعده على الامتصاص من نصوص أدبية، وأنت تدرك حق الإدراك أنه لا إبداع يولد من فراغ أبدا، بل من خمائر عصور تمزج وتخلط في ذاكرتك فتخرج بخميرتك الخاصة التي ستجتاح الذائقات والأذواق، وستدغدغ الأقلام، وأنت تنفعل حينا، وتتفاعل حينا آخر، تتأثر وتؤثر، فتغربل زادك، وتهئ عتادك، فتختار من رحيق الأقلام ما يناسب المقال والمقام، فأنت مقبل على عمل عظيم ربما سيرقى يوما من الأيام إلى العالمية، فيخترق حدود الزمان، ويحطم حواجز جغرافية المكان٠
    وتشطح شطحاتك الإبداعية، تهيم في وادي عبقر، تستلهم من حفيف سويقات سماره القصيدة٠ ملكا بلا مملكة تحفك عرائس الشعر، من هوراس إلى مجانين الشعر عبر العصور العربية٠وشيئا فشيئا يتكون الجنين ويكتمل نسبيا، وبعد مخاض عسير كالحمم تبحث عن ثقب للخلاص لتجتاح المدى، وقتذاك، يخرج إلى الوجود٠      
     تعرف بذائقتك وفطرتك النقدية أنه لن يعيش في كنفك طويلا، وأنك ستضعه بين أياد أمينة لتضمن له الاستمرارية والانتشار، وتسهرعليه: تأويلا وتحليلا وتفكيكا، وإعادة بناء هيكله، فتستعذبه أذواق لا تعد، وتستقبحه أخرى لا تحصى، وتختلف اختلافا كبيرا من حيث الخلفيات الثقافية والمرجعيات المعرفية والظروف والملابسات الاجتماعية٠ لكن هذا يتوقف على مدى قدراتك ومواهبك الإبداعية، في جعل مولودك هذا في قمة الانفتاح و إثارة  الإدهاش والغرابة في نفوس من استأمنتهم عليه، وأنت تتوخى منه تحقيق المتعة الفنية، وشرف المعنى، وتمرير رسائل إنسانية تفجر واقعك من الداخل لأنك ابن بيئتك٠ ونظرا لاختلاف القراءات باختلاف القراء واختلاف التعامل مع هذا المولود/ النص، فإنك تكون ملزما بتأهيل  هؤلاء القراء لاستقباله والتفاعل معه إعجابا واندهاشا، حسب قدرتك على توظيف الإشارة والرمز والإحالة على  ما أثريت به نصك من خلال ما اكتسبته من رحلتك  الطويلة في عالم المعرفة، مع الحرص على أن لا  تقع في مطبات التصريح واللغة المباشرة، التي تجعل نصك تافها، لا يلتفت إليه أحد، ولعل التلميح دون التصريح هو الذي يمد قراءك بالمركب والمجداف للإبحار في بحر التعدد والاختلاف في التفاسير والتحليلات والتأويلات، من خلال مرجعياتهم الثقافية، فتكون نجحت نسبيا في خلق مسافة بين المتلقي والنص، وأخرجته من دائرة الانغلاق إلى الانفتاح، وجعلته مرآة كل قارئ يرى فيها صورته، ويجد فيها نفسه، فيكون حافزا مهما يدفع القارئ إلى البحث والتنقيب وإعداد العدة والعتاد، وكله عزم على أن يكون في مستوى قراءة نصك٠ وعليك أن تقتنع بأن النص المتميز هو الذي يستفز القارئ، ويحاصره بسيل لا يحصى من التساؤلات، أما إذا كان غير ذلك، فإنك لن تفلح في نقل متلقيك من منطقة السلب إلى منطقة الإيجاب، وهذا يعني  أنه لن يستطيع إطلاقا إبداع لغة اللغة أو متالغة ، وبالتالي تكون حكمت على نصك بالموت، وهو لم يبرح مهده بعد٠
     عندما يولد نصك ويخرج من كفالتك إلى كفالة غيرك، تكون ملزما بقطع حبل السرة، وخنق عاطفة الأبوة في أعماقك، لأنك – بدورك - ستصبح غريبا عنه، ويصبح غريبا عنك، فتقرأه كباقي الناس استحسانا أو استقباحا، وربما تتنكر له أوتنكره، لأن عاطفة الأبوة تضرب صراحة الناقد في مقتل، فيحجم عن قراءته وبالتالي تضيع مجهوداتك هباء٠ وربما تتفق - دون شك- مع الناقد رولان بارت الذي توج القارئ وأقصاك من اللعبة تماما، فهو يعرف أن حضورك في قاعة الجراحة النقدية لا يفيد نصك بشئ، وتسانده  في الطرح نفسه نظريات التلقي من ياوس إلى إيزر٠ ولا تخف على مصير نصك لأن النقد سيمنحه حياة جديدة، وسيوقظه من سباته، كما يقول جان بول سارتر: النقد يوقظ النصوص من سباتها٠
     لكن، قبل أن تقطع حبل السرة،  وتسلم نصك لمن سيعتني به، عليك أن تنظفه من كل الشوائب والزوائد والأخطاء، فإنها تحسب عليك، وربما تقلل من قيمته في نظر هذا القارئ المتعطش للجيد والأجود لفظا ومعنى٠ فعين القارئ تقتنص من البستان الوردة المتفتحة٠ والنص كالحسناء ترفل في حرير اللفظ ودمقس المعنى، لكن تشوه وجهها خربشات مجانية ناتجة عن الإهمال، تجعل القارئ يغض عنها الطرف، أو لا يلتفت لها أصلا، كذلك الشجرة المعلولة لا يمكنها مقاومة الرياح، وقد تكون محملة بأمطار الخير والبركة، حبلى بمختلف العلوم والمعارف، أما إذا كانت غير ذلك، فإنها لن تفيدك بشى، فالرحى الفارغة تظل تدور٠٠٠تدور٠٠٠ لكنها لا تطحن إلا الفراغ٠
      فما دمت سهرت على تكوين جنيك، وعانيت من عسر المخاض،  وسقيته بأجود ما في جعبتك من مخزونات، وخمرته في خليط من شتى الخمائر، إلى أن استقل بذاته وببنيته الخاصة، فالذين سيكفلونه عليهم هم أيضا أن تكون خميرتهم من مختلف الخمائر التي تركها السابق للاحق، السلف للخلف، حتى يحصل التكافؤ بينك كمبدع، وبينهم كقراء / نقاد٠
     لان النقد يستفيد من سائر العلوم، ويستدل بالمتح من هذا الخزان٠ فإذا كان النص أرضية صالحة للنقش، فإن الناقد باعتباره نقاشا بارعا وجراحا حاذقا ونحاتا ماهرا، فإنه سينقش على جسده  صورا رائعة لقيمتها قيمة،  فيشم في مشيمته رائحة عشرات النصوص الضاربة في عمق تاريخ الأدب والتفكير الإنساني، نصوص سبق أن سمعها المبدع أو قرأها، أو تكون نتيجة لوحدة التفكير الإنساني، وقد تصبح هذه الرائحة أكثر وضوحا، إذا ما تركت  إحالة أو إشارة أو تلميحا إلى تلك النصوص التي تنسج منها لحمة نصك قصدا أو عن غيره، وإزالة الغموض عما يتضمنه نصك من نصوص غائبة ومعارف،  تبقى مسؤولية الناقد الذي يجب أن يحسن الإبحار فيما وراء السطور، لكشف سر و أسرار لغتك، وتفكيك رموزك وتحليل شفراتك بحثا عن عميق الدلالات، خصوصا إذا كان يتقن البحث والتنقيب عن مواطن الجمال في بواطن لغة النصوص، ولا يرضى بالقشور٠ لقد اعتبرت الناقدة cristiva أن نصك امتصاص لكم هائل من النصوص أوتحويل لها، وقد يكون هذا الامتصاص على شكل تضمينات أو تناص أو إحالات و إشارات يقوم الناقد بتنويرها، وتوضيحها وكشف خفي خفيها، وفضح سرها ومستورها من خلال الربط بين نصك والنصوص الغائبة في طياته٠ ولعل هذه النصوص الغائبة في نصك هي التي تعطيه القوة، وتمده بأسباب الاستمرارية والحياة، فتستفز مشارط هؤلاء  النقاد، وتسيل  لعابهم لوضع الأصبع على موضع الألم منه، وسبر العميق من أغواره٠ لقد أنكر بعض الأصدقاء  مرور نصك من مرحلة المخاض وأن التجربة الأدبية شعرا كانت أو سردا تصقل عقليا، وقد لا اتفق معه ، لأن  ميلاد النص  يتمخض عن اللا وعي واللاشعور، وماكينة التخزين لا يمكنها الاشتغال إذا حوصرت بالمنطق العقلي٠ وقد كان العرب يعتقدون أن أشعر الشعراء العرب أمثال النابغة الذبياني وامرؤ القيس وعنترة بن شداد وغيرهم كثير، أنهم كان لهم من يوحي لهم أشعارهم، وهم شعراء الجن الذين كانوا يسكنون وادي عبقر وقد سموهم بأسماء خاصة،  و كان الملهم نسميه عبقريا نسبة إلى وادي عبقر، وقد صنفتهم الروايات، فكل شاعر كان له مثيله من الجن، يملي عليه الشعر إلهاما، والإلهام منبعه اللاشعور٠
    إن الخزان المعرفي للإنسان لا تحده حدود، شريطة العمل على تطعيمه بكل ما هو جميل من الفكر والمعرفة الإنسانية، فعن طريق التداعي أو توارد الأفكار تتم الاستفادة من هذا المخزون،  فالنسيان ليس إلا اختمارا لكم معين من هذه الافكار والمعارف، التي ستمدك بها الذاكرة عندما تكون في  حاجة إلى ذلك٠
      لذلك، عليك إذا أردت إبداع النصوص المميزة، أن تملأ خزانك  بمعارف السابقين، وعلومهم، وأشعارهم، وآدابهم، وتنسى ذلك تماما،  فنسيانك هذا المخزون يعني ميلاد إبداع متميز جديد، بأسلوب جديد وإلهام جديد، فلا شيء يأتي من الفراغ وامتصاص نصك نصوصا أخرى حاصل لا محالة شئت أم  أبيت، والكشف عن هذه النصوص الغائبة  التي زودت بها نصك، وهو في مرحلة التكوين،  تقوي الذائقة النقدية، وترفعها درجات٠ لقد كان النقاد العرب القدماء يعتبرون هذا الامتصاص نوعا من السرقات، فيتصيدونها في النصوص الشعرية، ويعتبرونها من عيوب الشعر لأن أنانيتهم تمنعهم من الإقرار بشاعرية الآخر عكس النقاد الغربيين الذين كانوا يتباهون بتناص نصوصهم مع غيرهم، لأن ذلك يدل على سعة العلم والمعرفة، فإليوت- مثلا - كان يفتخر بالمتح من نصوص شعراء الرمزية الفرنسية، وهذا المتح -دائما - إلهام غير مقيد بقيود الوعي والشعور، وهناك من العرب من فطن إلى أهمية النصوص الغائبة في جودة الذائقة الشعرية للشاعر، وسأسوق في هذا الصدد حكاية لأبي نواس، عندما أراد نظم الشعر قصد خلفا ، فقال له : إذا أردت قول الشعر عليك بحفظ  كذا وكذا من الشعر، فحفظ ابو نواس ما طلب منه، وعاد إلى خلف، فقال له : لقد حفظتها، فقال له خلف : عد وانساها، وقد فعل أبو نواس ما طلب منه، ولنتصور صعوبة أن تنسى ما حفظت -خصوصا - عندما يطلب منك النسيان، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مدى أهمية  ما تقوم الذكرة بتخزينه، وللموضوع حديث ذو شجون٠
No comments:
Post a Comment