Saturday, September 15, 2018

أحلام النوارس ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ / صالح هشام

أحلام النوارس
* دقيقة نجاح تعوض عن سنين من الفشل *                                                                                    - روبرت براو ننغ -

    رخامة ملساء بين كتفيك، خم دجاج ينقر دماغك، حملك ثقيل على أمك المريضة. كقطرة زيت في مرجل، تحلم بفردوس مفقود، يصادر خوفك من عقوق أمك حلمك، دوما تنهاك عن ركوب البحر، لكن أرض الوطن المتشققة تدمي قدميك، شوكة عالقة بخاصرتك.
    رطوبة البحر مغرية تجذبك بقوة، كفراشة تعلق بقطرة ضوء، تنتشي بروائح طـحالبه، وبعطور شقراوات تحملها نسائمه من الضفة إلى الضفة، لهن ترسم صورة في مخيلتك، فتمضغ لحمهن الأبيض، لكنك تؤلب عليك مواجع كبتك.
     تتأمل وجه أمك، كملاك تهدهدها كوابيس الفجر. وفي عجلة من أمرك، تطبع على جبينها قبلة حارة، ربما تكون الأخيرة، تنتعل حذاءك، تقاوم نفسك، وهي تحاول كسر شوكتك، وتثبيط عزيمتك:
    -    لن تلدك أمك ثانية، إذا قضمت قواطع البحر رأسك يا ولد.
    تصد الباب خلفك، تتبخر في فراغ الليل، تتلمس نقوش حرمان محفورة في أعماقك: فاتنات ونبيذ رومي معتق، وجيوب متخمة بالعملة الصعبة، فتؤلمك نفسك، يضنيها حلم واحتلام وشظف عيش، تريد تضميد جراح واقعك المجروح، تحلم أن تعيش إنسانا، فتقوض خيمك، تبغي الرحيل إلى بلاد الإنسانية.
   هو ذا البحر أمامك، تتقطع أنفاسه، يقاوم ثقل الزمن وبرودة الليل، يفتح عينا ويسد أخرى، ينفض عن مداه الأزرق غبار النعاس، يتثاءب ملء فيه، فيتفل أجسادا بلا رؤوس، جذوعا بلا أطراف، بقايا أشرعة بلا مراكب، يهولك هذا الأمر، فتتوجس من زبده فوق حبيبات الرمال يتشظى، وتحت قدميك العاريين يتكسر، تزيغ عيناك، تعلقان بفقاعاته القزحية، تقتفي أثرها وهي تسبح في ظلام الليل، وتعكس بريق نجوم باهت، هائمة في فراغ بلا بداية ولا نهاية.
   رذاذ البحر ينعشك، يلوي ذراع خوفك، يزرع رغبة مجنونة في نفسك، ستركب مخاطر الأمواج، ستبحر بمركب مهترئ بلا أشرعة وبلا مجاديف. كحصان مجنح ستنبت جناحين، ستحلق مع أسراب النوارس، وأنت ترسم أحلامك كبيرة فوق الرمال بمداد الأمل والألم، ستهرب من أرض قفراء غبراء، صحراء بلا رمال، ليس فيها غير النحس والنكد.
  هو ذا قويدر، رفيق دربك ينعم بحضن شقراء أجمل من القمر، أنصع بياضا من الثلج، منامتها وردة تفوح عطرا، قطعة من قماش السلطانة هيام، لا روائح براز رضع ولا ثوم ولا بصل فيها. ها هو الأرعن في سيارة مرسيدس فارهة، يخيط أزقة ماضيك بخيلاء، ويسحق بالعجلات ماضيه، سيارته في بريقها ترى ملامحك الشقية المتشققة. كنت تتأفف من ثرثرته، لكنه كان يعكس صورتك في مرآة، كنت تراها مقلوبة:
    -    الدنيا سادية تستعذب الاغتصاب، تركلها على المؤخرة بالحذاء، فتعانقك بالأحضان.
    الفلس الأخضر يشق الطريق في البحر، يخلق من بلادة قويدر حكمة رغم أنفك، يحز في نفسك أنه كان يتلذذ بابتلاع مخاطه الأصفر، أو يمسحه بكم درا عته المتسخة، فيثير في نفسك التقزز فتحتقره، لكنه كان أذكى منك، وإذا لم يكن كذلك، فلماذا تتبعه كل يوم مبصبصا كالكليب؟ تلملم أعقاب سجائر دميته الرومية، فأين أنت اليوم من هذا المعتوه؟
    تسترجع ماضيه، يشكوك جوعه، فترميه بقطعة خبز حاف، وتجود عليه بما علق بقاع كوبك من شاي بارد حامض. تعترف اليوم بقدرته وتقر بقذارتك. قطيعة لحم أعلن القطيعة مع ماضيه، فقطع حبل السرة مبكرا، عض حلمة أمه، فأفلت من جاذبيتها البلهاء، وضع كفنه فوق راحته وأناه تحت مداسه، طري العود ركب موج البحر، فاستحق هذا المقعد الجلدي الناعم، وهذه الرومية الفاتنة، مصقولة الصدر، بارزة النهدين كعارضة أزياء، هذه التي تصهرها كل يوم بنظراتك الجوعى، وأنت عاجز عن تجرع حموضة كبتك، فيثور بركانك، ويلفظ حمما ممزوج دخانها بعرق جبينك.
   العملة الخضراء تمنعه من مصافحة جيفة مثلك، وحتى إذا حدث وفعلها، يصافحك بسرعة البرق، وخلسة منك يطهر يديه بالماء والصابون، يخاف منك، فيك رائحة بؤس، فيك شيء من ماضيه الهارب.
    خوف أمك من البحر يقيد قدميك، يشدك لفقرك وبؤسك، يدفعك دفعا لتقتات كل يوم على زهرة شبابك، فتتجاهلك مكرهة، وأنت تلملم أعقاب السجائر من أرصفة المقاهي وحاويات القمامة، ودون أن تخجل تردد على مسامعك أسطوانتها القديمة بتكرار ممل:
    -   البحر يا ولدي يستطيب لحم العوام، ويستبشر خيرا بقدوم الغرباء!
    -    فما به هذا البحر يا أماه؟ ها هو كطفل صغير أمامك، يتوسد براءته، ويغوص في أحلام براقة شفافة لا لون لها، يغضب فيريح البلاد، ويرحم العباد من الظلم والفساد. كلنا نغضب، أ ليس من حقه أن يغضب؟
    أ ليس من حقه أن يحلم؟ هو أيضا له جنونه، لكنه يحترم قلوب الصخر، ويستصغر جبن الجبناء.
    في زمن مضى، على ضفته الجنوبية كانت جحافل الفلك تسد عين الشمس في مغربها، تتهادى في حركات سريعة، فتبدو للرائي فيلة هائجة، يهدهدها غضب الأمواج، تقودها طيور النورس من جنوب أقفر إلى شمال مال وجمال، وتنتشلها الدلافين من أرض صحراء إلى جنة خضراء.
     يحرق مردة البحر السفن قرب صخرة عالقة بخاصرة البر، يقارعون بالسيوف والرماح أشباح هذا الممر السالك من الجحيم إلى الجنة، يعبرون برزخا عظيما، يفصل بين حياة الترف وموتك فقرا، بين قويدر الأمس وقويدر اليوم. فلا أمل في رجوع بعد عناء إبحار... لا رجوع... لا رجوع...  هو صبر سويعات قليلة. على جدار ذاكرتك تتشظى كلمات القائد البربري.
    أنت أيضا كن شجرة، انزع لحاك، كن ثعبانا، جدد جلدك، اخرج من صدفتك، دس أفكار أمك، اغسل دماغك واغتسل، فالحياة الكريمة لا رائحة لها ولا لون، لا تخف أسماك القرش، ستعاف لحمك، فيه ملوحة قهر وعهر وفقر. تبرق سيوف السلف في دماغك، يومض حريق السفن في عرض أفكارك، يجذبك تاريخ القائد البربري العظيم، فتستأمن دلافين البحر حياتك، وتهب نفسك وأنفاسك لطيور النورس، فترحل بك بعيدا في هذا المدى الأزرق.
   على الرمل تخط بعود يابس خطة الهروب، أن تفلت من جحيم الأوطان، أن ترحل إلى فردوس الآخرين، أحلام باهتة ترسمها على سطح الماء، وعلى أديم السماء، وأنت تقلب خطة القائد في دماغك، وتدقق في كلماتها كلمة ... كلمة، وتتفحص سحنات العابرين سحنة... سحنة، تكاد تعد ألياف عضلاتهم، تجد نفسك لا تقل عنهم أهمية. لا محالة ستعبر مع العابرين ورأسك من رؤوسهم، فإما أن تربح أو تذبح، وليس في جعبتك ما ستخسره.
     صفعة قوية على قفاك تشعل النجوم أمام عينيك، ركلة قوية على مؤخرتك تجعلك تبلع لسانك، وتحرمك من لذة أحلام اليقظة، وتعيدك إلى وعيك:
    -     يا ابن العاهرة، كلكم تريدون العبور إلى أرض غير أرضكم؟ ما بالها أرضكم يا سفلة، يا جاحدي النعمة؟
     صوت قوي فيه سطوة وسلطة يصرخ فيك.
  يغمض عينيك بقطعة قماش أسود، يسجن قبضتيك خلفك، يصفد أحلامك، ويدوس على البنزين، وقتها تفطن لسوء فهمك خطة القائد العظيم، ويخونك درس التاريخ.

No comments:

Post a Comment